هذه هى الحلقة (٧) من دراستنا «غروب الجماعة»، ونتناول فيها موقف الجماعات الإسلامية، ومنها الإخوان، من قضايا الوطن والمواطنة والجنسية، أبادر فأقول إن هناك التباساً لديها فى فهم هذه المصطلحات، الأمر الذى أدى إلى وجود مشكلات خطيرة متعلقة بالولاء والانتماء، فهذه الجماعات تعطى ولاءها وانتماءها فى المقام الأول لأمرين اثنين، العقيدة والمذهب، وبالتالى فأى فرد يدين بها ويعتنق مذهباً معيناً، سواء كان هنا فى مصر أو فى أى مكان من العالم، يكون ولاؤه وانتماؤه لجماعته وليس للدولة التى يعيش على أرضها وفى كنفها، ولنا أن نتخيل كم المشكلات والصراعات والقلاقل التى تنشأ فى دولة يوجد بها عشرات من هذه الجماعات، كل واحدة منها لها انتماؤها وولاؤها خارج حدودها، ولنا أن نتخيل أيضاً كيف يمكن أن تتحول هذه الجماعات إلى براميل بارود أو قنابل موقوتة داخل هذه الدولة أو تلك، على سبيل المثال، حزب الله فى لبنان، والشيعة فى سوريا والعراق وشرق دول الخليج، والحوثيون فى اليمن، هؤلاء يعتبرون ولاءهم وانتماءهم أولاً وأخيراً لإيران، يأتمرون بأوامرها، وينتهجون نهجها، ويسعون لتنفيذ أهدافها، ولو على أشلاء أوطانهم، وقد رأينا كيف أن الأفراد الذين قاموا بالهجمات الإرهابية فى باريس يوم الجمعة ١٣ نوفمبر، هم فرنسيون يعيشون على أرض فرنسا ويتمتعون بجنسيتها، مع ذلك هم ينتمون إلى «داعش»، لا إلى فرنسا، نفس الشىء بالنسبة للإرهابيين الذين يعيشون على أرض مصر، لذا، نقول إن مواجهة الإرهابيين بالقوة اللازمة على المستوى المحلى والإقليمى والدولى ضرورية وحتمية فى مرحلة ما، لكنها لن توقفهم، وسوف يستمرون فى ممارسة الإرهاب ما وسعهم إلى ذلك سبيلاً، طالما بقى فكرهم على حاله دون تغيير أو علاج، وهذه هى مهمة العلماء والمفكرين والساسة.
إن الجنسية رابطة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة، فهى رابطة سياسية لأنها تربط الفرد بوحدة سياسية هى الدولة، حيث يكون أساسها سيطرة الدولة وسيادتها فى تحديد ركن من أركانها وهو شعبها، وهى رابطة قانونية، حيث تحكمها قاعدة قانونية وتترتب عليها آثار عديدة من الناحية القانونية أيضاً، ويعرفها الفرنسى «بول لاكارد» بأنها التبعية القانونية والسياسية لشخص إلى السكان المكونين للدولة، ويعرفها «لوسوران» بأنها صفة الشخص المستمدة من الرابطة السياسية والقانونية التى تربطه بدولة هو أحد عناصرها المكونة، وعرفها الفقيه «لريبور بيجونيير» على أنها رابطة قانونية وسياسية تنشئها الدولة بمشيئتها فتجعل الفرد تابعاً لها، أخذ بهذا التعريف عز الدين عبدالله فى كتابه (القانون الدولى الخاص)، والحلوانى فى كتابه (الوجيز فى القانون الدولى الخاص)، وعرفها شمس الدين الوكيل فى كتابه (الموجز فى الجنسية ومركز الأجانب) بأنها تبعية قانونية وسياسية تضع الدولة قواعدها ويكتسب الفرد بموجبها الصفة الوطنية فى هذه الدولة (انظر ما جاء فى موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية، مصطلحات ومفاهيم، عامر مبيض)، ورغم أن الجنسية رابطة مدنية اجتماعية، بين الدولة ومواطنيها الذين يعيشون على أرضها ويلتزمون بدستورها ويتقيدون بقوانينها، لا فرق فى ذلك بين مسلم وغيره، وأن هذه لا تقارن على أى نحو برابطة العقيدة، فهذا مجال، وذاك مجال آخر مختلف تماماً، لكنا وجدنا سيد قطب يقول إن «جنسية المسلم عقيدته»، بل يفرد لها فصلاً فى كتابه الشهير «معالم فى الطريق»، فما الذى يقصده «قطب» بهذه العبارة، وما الذى يقصده «البنا» بأن «الإسلام وطن وجنسية»؟! هل المقصود بها الرابطة السياسية والقانونية بين الفرد والدولة، على اعتبار أن شمولية الإسلام تتضمن نظاماً سياسياً وقانونياً؟! إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للمواطن المسلم، فما هو موقف المواطن غير المسلم الذى يعيش فى هذه الدولة؟ ثم إن هناك عشرات الملايين من المسلمين يعيشون فى كل قارات العالم، أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا، وقد استوطنها هؤلاء وصاروا جزءاً من شعوبها، يلتزمون بدساتيرها وقوانينها، ومن ثم أصبحوا يحملون جنسياتها، فهذا أمريكى، وذاك بريطانى، وهكذا، فهل من المقبول أن يلتزم مسلم أو جالية مسلمة تعيش فى أمريكا (مثلاً) بتنفيذ دستور بلدها الأصلى والاحتكام إلى قوانينه، بدلاً من الدستور والقوانين الأمريكية، من منطق أن «جنسية المسلم عقيدته»؟ وهل يمكن أن تتركها الدولة الأمريكية لتفعل ذلك؟ صحيح أن «البنا» تكلم عن الوطن والوطنية، خاصة وطنية الحنين والحرية والعزة والمجتمع كلاماً رائعاً، لكن جانبه الصواب تماماً عندما تكلم عن وطنية الفتح والحزبية وحدود وطنيتنا، كما جانبه الصواب عندما قال عن الإسلام إنه «وطن وجنسية»(!)، إن الإسلام كعقيدة وشريعة ليس هو الوطن، مفهوم الوطن يبدأ من القرية والمدينة وينتهى بالوطن القومى الأكبر، أما مقوماته فتتلخص فى عنصرين: الأرض والإنسان.
إن المواطنة تعرف بأنها عبارة عن علاقة متبادلة بين أفراد مجموعة بشرية تقيم على أرض واحدة، وليست بالضرورة منتمية إلى ذاكرة تاريخية موحدة أو دين واحد، هذه المجموعة البشرية ينتظمها دستور وقوانين تحدد واجبات وحقوق أفرادها، إنها شبه جمعية تعاونية ينتمى لها -طواعية واختياراً- أفرادها بشكل تعاقدى، فالذى ينضم إليها اليوم، له نفس حقوق من انضم إليها منذ عقود، وقيم هذه المجموعة فى المفهوم الحديث هو عكس المفهوم التاريخى الذى يقوم على أساس العرق أو الدين أو التاريخ المشترك، فالتنوع نفسه يصبح قيمة كبرى إذا تحقق الانسجام عن طريق التفاعل بين مختلف الخصوصيات، وذلك: ١- بتفعيل المشترك الإنسانى ٢- تحييد عنصر الإقصاء والطرد، و٣- استبعاد عنصر نقاء النسب الذى يؤدى إلى تقسيم المواطنين إلى درجات كما كان عند الرومان أو العرب فى عصر الجاهلية، المواطنة إذن رابطة اختيارية معقودة فى أفق وطنى يحكمه الدستور، أو ما سماه الفيلسوف الألمانى «هابرماس» بالوطنية الدستورية، أى شعور الفرد بانتمائه إلى جماعة مدنية مؤسسة على المشاركة فى القيم الأساسية، والحقيقة أن المواطنة تتسامى على الفئوية، لكنها لا تلغيها، والمطلوب أن تتواءم وتتعايش معها، ولعل ذلك أهم تحول فى مفهوم المواطنة فى العصر الحديث، ولعله أهم جسر لتكون القيم الدينية لكل مجموعة بشرية محترمة ومقبولة، وأن هذا يلتقى مع المفهوم الإسلامى للتعايش البشرى، بحيث لا يجد المسلم حرجاً بل قد يكون متعاوناً معها (راجع ما كتبه العلامة بن بيه فى كتابه: صناعة الفتوى وفقه الأقليات).
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com