هل تختصر الرقابة الهندية نصف القبلات بين دانيال كريج «ومونيكا بوليتشى فى فيلم (جيمس بوند)»، أم تعرضه كما هو ويحظر مشاهدة الشريط لمن هم دون 12 عاما إلا مع الإشراف العائلى؟ اختار الموزع العرض العام حتى يتجنب التصنيف العمرى، التضحية بنصف القبلات أرحم تجاريا من الوقوع تحت طائلة التصنيف، لسنا بعيدين عما يجرى فى الهند برغم أن قطاعا لا بأس به من الشعب الهندى انتقد قرار الرقابة، ولكن لا شك أن هناك قطاعا آخر يرحب بتوجه الدولة الأخلاقى.
لو تابعت مثلا أغلب مانشيتات الجرائد أثناء تغطية فعاليات مهرجان القاهرة السينمائى الدولى ليس فقط الدورة الأخيرة، لو عدت لأرشيف المهرجان الصحفى فى السنوات الأخيرة، ستكتشف أن «المانشيت» ثابت لا يتغير عن تفشى ظاهرة أفلام الجنس فى المهرجان، رغم أن المهرجان أساسا مستحيل أن يعرض أفلاما جنسية، كما أنه هذا العام بالمقارنة بالأعوام الماضية يعتبر مهرجانا مهذبا.
لست أدرى ما الذى سوف تفعله الرقابة المصرية مع «جيمس بوند» هل تحذو حذو الهند؟ فى كل الأحوال الرقابة فى العالم الثالث تخضع إلى ضغوط مزدوجة من السلطة ومن المجتمع، السلطة تريد الحفاظ على رأس النظام ممنوع أن يمس من قريب أو بعيد، بينما المجتمع عادة يريدها أشد ضراوة فى قرارات المنع لكل من يقترب من العادات والتقاليد فهو يريد أعمالا فنية آمنة، دائما ما تلعب شخصية الرقيب دورا فى الإباحة أو المنع، فهو يقف بين مجتمع متحفظ وسلطة لا ترحب بأى مشاغبة سياسية، وفى نفس الوقت تسعى الدولة لكسب رضا المثقفين، من خلال تصدير مقولة «الفن الهادف والحرية المسؤولة»، ولهذا لا تجد الدولة غضاضة فى أن تدفع بمثقف كبير مثل نجيب محفوظ فى النصف الثانى من الخمسينيات ليعتلى كرسى الرقابة على المصنفات الفنية، وعليه أن يحدد الموقف وما الذى يوافق عليه المجتمع؟، ولا يخلو الأمر من مشهد ساخن أو قبلة قد تثير التساؤلات وربما الغضب، الرقيب هو «ترمومتر» للحياة، تَفتحه وبناؤه الشخصى وقناعاته الفكرية وذوقه الخاص تلعب دورا فى توجيه البوصلة نحو الإباحة أو المنع، ولكنه يظل دورا ثانويا.
أما دور البطولة فهو للمجتمع ومدى تقبله أو استهجانه، مثلا لم يكن نجيب محفوظ يجد حرجا فى أن يعلن أنه يوافق كرقيب على القبلات بكل أنواعها ما عدا واحدة فقط تلك التى تستقر على العنق، خاصة لو طال زمنها على الشاشة أكثر من دقيقة، وسألوه فى حوار صحفى هذا عن الشاشة ماذا عن الواقع، ماذا تفعل كنجيب محفوظ الإنسان لو رأيت شابا وفتاة يختلسان قبلة فى الشارع؟ أجابهم «أبداً أودى وشى الناحية التانية وأبتسم وأقول اوعدنا يا رب».
وهكذا صاغها نجيب محفوظ بخفة ظله، أراد توصيل المعنى أنه لا يمانع، فى رؤية قبلات الشارع ولكن على الشاشة كان الأمر مختلفا بعض الشىء، كانت هناك كما روى لى المخرج الراحل توفيق صالح صديق محفوظ وأحد مؤسسى جماعة الحرافيش، اعتراضات من البعض ومطالبات للرقابة فى تلك السنوات بالتدخل، كما أن تعبير السينما النظيفة- ليس وليد هذه الأيام ولكنه موغل فى القدم- كان عدد ممن يمارسون النقد والصحافة فى الخمسينيات يعدون عدد الكلمات الجريئة والمشاهد الساخنة والعنيفة ويمنحون الفيلم درجة من عشرة بناء على التزامه بمكارم الأخلاق.
كان نجيب محفوظ يتدخل فى حالات محددة ونادرة بالحذف بمعيار أخلاقى، هو نفسه أشار فى أكثر من حوار صحفى إلى فيلم «إغراء» لحسن الإمام، عندما طلب كرقيب إعادة تسجيل أغنية صباح «من سحر عيونك ياه» التى كتبها مأمون الشناوى ولحنها محمد عبدالوهاب بسبب «يااااااااه» التى طالت أكثر مما ينبغى، ووجد أديبنا الكبير بحس أولاد البلد أن الإطالة هنا تحمل معنى حسى فأعادت صباح التسجيل لتختصرها إلى «ياااه» قصيرة.
الغريب أن الإذاعة المصرية كثيرا ما تقدم حفلا غنائيا لصباح، وقد أدت ياااااااااااه طويلة بأكثر حتى مما احتج عليه محفوظ، إنه بالتأكيد المجتمع الذى يسمح وليس الرقيب. القبلات فى السينما كثيرا ما تثير العواصف، خارج «الكادر السينمائى»، دعونا قبل أن نغادر محطة الهند أن نذكر هذه الحكاية التى كانت حديث الميديا قبل نحو 10 سنوات، عندما تعرض الفنان العالمى ريتشارد جير للحكم بالسجن ثلاثة أشهر أو الغرامة بسبب قبلة على المسرح جمعته مع الفنانة الهندية شيلبا شيتى رغم أنه أراد أن يحاكى فيلم «دعنا نرقص» فى تلك القبلة التى شاركته فيها جينفر لو بيز، ولم يقتصر العقاب على جير فقط، حيث إن شيلبا تعرضت للمنع من السفر عدة سنوات عقابا لها، فى السينما المصرية ربما كانت قبلة عمر الشريف لفاتن حمامة فى «صراع فى الوادى» هى الأشهر، ولكن هناك قبلة سينمائية كادت أن تودى بحياة المخرج عاطف سالم بعد عرض فيلم «شاطئ الأسرار» الذى جمع بين عمر الشريف وماجدة الصباحى، والتقط عاطف قبلة من ماجدة جمعتها والشريف، وعندما شاهد شقيقها ضابط الشرطة الفيلم وعلم منها أن عاطف هو الذى دبر المشهد أراد قتله، لولا أن عاطف ذهب به كما روى لى إلى جهاز «الموفيولا» الذى كانت تجرى عليه عملية المونتاج فى تلك السنوات، وشاهد الضابط المشهد كادر كادر وتأكد أنه لم يكن هناك إجبار وتم برضاء ماجدة فأعاد المسدس الميرى إلى غمده.
حتى الثمانينيات فى السينما لم تكن هناك مشكلات فى القبلات والدليل أن أفيش فيلم «أبى فوق الشجرة» 1969 كان يتم التباهى فيه بعدد القبلات بين عبدالحليم ونادية لطفى، بينما فى فيلم «العشق والهوى» 2006 إخراج كاملة أبوذكرى تدخل منتج الفيلم خلسة برغم موافقة الرقابة وحذف قبلة تجمع بين أحمدالسقا ومنة شلبى بحجة أنه يقدم فيلما نظيفا.
وفى مجال الغناء تمارس دار الأوبرا المصرية قدرا من الرقابة على كلمات الأغانى بل تعيد تسجيلها مثل أغنية سيد رويش وبديع خيرى «شفتى بتاكلنى أنا فى عرضك/ خليها تسلم على خدك» فصارت الكلمات «مهجتى فى إيديكى أنا فى عرضك /خليها يا روحى أمانة عندك»، وفى الإذاعة المصرية عدد من الأغنيات تحتار بين إباحتها أو منعها مثل أغنية عبدالحليم «أول مرة» لإسماعيل الحبروك ومنير مراد فى مقطع «لسه شفافيى شايلة كلامك /شايلة أمارة حبك ليه» فى بعض التسجيلات يتم حذف هذا المقطع، أيضا أغنية سعاد حسنى «بمبى» لصلاح جاهين وكمال الطويل «بوسة ونغمض وياله /نلقى حتى الضلمة بمبى»، أحيانا يتم الحذف.
إنها القبلة التى غنت لها أم كلثوم فى فيلم «سلامة» لتوجو مزراحى «القبلة إن كانت من ملهوف /اللى على ورد الخد يطوف /ياخدها بدال الواحدة ألوف/ ولا يسمع للناس ملام»، هل رأيتم جرأة أكثر من تلك التى كتبها بيرم التونسى ولحنها الشيخ زكريا أحمد قبل نحو 75 عاما، فهل كنا فى زمن «أم كلثوم ومحفوظ نتسامح مع القبلة ونحرمها فى زمن (جيمس بوند)»؟
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com