بقلم: نبيل المقدس
كان وحيد والديه ... من أسرة شهيرة وغنية جدا في إحدي مراكز الصعيد ... أعطاه ابوه كل شيء ... حتي ممتلكاته مقدما فيما عدا التصرف فيها إلا بعد وفاته. أعرفه منذ كنا ندرس في مدرسة الأمريكان بأسيوط ... وكان أي زميل يصادقة تحل عليه النعم والخيرات التي تأتي له من العزبة ... كان ودودا جدا ... متعاونا جدا ... أمينا في معاملاته مع الزملاء والمدرسين ... لكن عيبه الوحيد انه غير مجتهد , مع انه كان ذكيا جداً... كان يمر علينا بعربيته الـ فورد , يادوب الفرق بينها وبين الحنطور عجلة القيادة ... لكن وقتها كانت أحدث موديل ... وكان كل همه أنه هيطلب من والده يغيّر له السيارة بسيارة اخري تعمل بالمارش الأوتوماتيك بدلا من تشغيلها عن طريق " المينافِله" .
كل وقت وله "الأوبشان" Option الخاص به. جاءت الثانوية العامة , حيث كانت هذه السنة من أشهر سنوات الثانوية العامة في تاريخ التربية والتعليم من جهة الإمتحانات .. فقد تم تسرب الأسئلة عن طريق اللاعب "الزملكاوي" نبيل نصير ... تم اعادة الإمتحانات علي مستوي الجمهورية .. وفي اثناء تأديتنا إمتحانات الإعادة لاحظنا عدم وجود صديقنا الغني في اللجنة . وانقطعت اخباره ... حتي قابلته بالصدفة بعد حوالي 45 سنة في مطار القاهرة ... والغريب انا لم اعرفهُ ... لكن ذكائه الحاد في هذه الأمور جعلهُ يتعرف عليّ بسرعة عجيبة لدرجة انني اخذت دقائق من الوقت لكي استعيد شريط الفيلم من خلال حواره , حتي ما انتهيت من السيناريو طبقا لحواره فتذكرته , ثم اخذته بالأحضان . وإلي هنا انتهت كيفية لقائي مع زميل فقدت أخبارهُ منذ عشرات السنوات.
أخذنا الحديث ... وفهمت منه أنه ترك الإمتحانات ... وبعد سنة رحل إلي إيطاليا , وبدأ يتدرج في التعليم , حتي انه حصل علي إدارة الأعمال من روما .. ثم أكمل تعليمه في إحدي جامعات فرنسا وحصل علي الدكتوراه. اي انه وصل إلي درجة النضوج الفكري والتحرري إلي اقصاها. لاحظت ان هناك دموع تنهمر من عينيه ... قلت له أكيد إفتكرت أيامنا الحلوة ونحن صبيان ... قال لي .. لا يا أخي .. بل إفتكرت إبنتي . طبعا ولأنني اعشق واموت في أخبار الناس .. قلت له خير مالها ؟ . صَمتَ .. وفي اثناء صَمْتِه عرضتُ عليه أن يُخبرني ماذا حدث بعد زوغانه من إعادة امتحانات الثانوية العامة .
قال لي : فعلا سافرتُ بعدها بسنة , وهناك كما عرفتك سابقا تعلمت , وتزوجت من ابنة قريبي هذا , والتي كانت نصفها ايطالية لأن والدتها كانت ايطالية . عشت حياتي في ايطاليا .. وكنت ازور والدي كثيرا بعد وفاة والدتي .. كما كان يأتي إلينا للزيارة , وكما هي عادات الصعيد كان لا يبخل علينا بالزبدة ولا حتي بالفطير المشلتت .
الرب اعطاني ابنة جميلة .. وإذ بأبي يرسل لي رسالة ... يقول لي عايزين الولد .. جاءت الولاده الثانية بإبنة ايضا ... ومعها رسالة أخري من والدي يقول لي منتظرين الولد ... جاءت الولادة الثالثة وإذ الرب يعطيني إبنة ايضا .. وجدت هذه المرة ان ابي يطلبني من مطار روما الدولي بدلا من ارسال رسالة .. ذهبت بسرعة إلي المطار , وإذ إفاجيء يقول لي أنه راجع إلي القاهرة بعد ساعتين .. مافيش داعي اذهب معك إلي البيت .. جئت اقول لك " فين الولد ..؟؟ " .. حاولت افهمه أن الموضوع ليس بيدي .. لكن بمشيئة الله . لكن العقل هو العقل .. مهما كان إيمانه .. مهما كان تعليمه .. لكن هناك اصول راسخة فيه منذ مئات السنوات بأن فخر العائلات هو في ولدها . وتركني والدي من المطار وكانت آخر مرة آراه فيها. فقد سمعت بخبر وفاته بعد 3 شهور من وجوده معي في مطار روما.
بعد ما قضيت أيام العزاء وانتهيت من نقل الميراث لي .. إكتشفت أنني ورثت ايضا افكار أبي , وقلت لنفسي .. فعلا ابي كان علي حق .. كل هذه الممتلكات سوف تذهب للأغراب من بعد ما أنا اترك هذه الحياة .. وبعد خمس سنوات مرت قلت لنفسي" ملحوقة سوف آتي لك بالولد ياوالدي " .. تكلمت مع زوجتي بعد ما خلعت عن ذاتي الثقافة والعلم والتمدين و الإيمان .. وصارحتها أن نأتي بمولودنا الرابع وأكيد الرب سوف يأخذ بخاطر والدي ويأتينا بالولد ... رفضت بشدة وقالت لي انها في سن خطير , وان حدث حمل ربما يكون الطفل مشوها أو غير طبيعي .. لكنني عارضتها بشده , وضغطت عليها ... قالت ألا يهمكَ أمري .. ربما أنا نفسي يحدث لي ضرر وأموت ! لكن أنانيتي والتي توارثتها مع الإرث قضت علي الرحمة وجعلتها تحبل في طفلنا الرابع .. ولكن الرب اعطاني ابنة كانت علي حساب والدتها التي كنت أحبها جدا . لكن ارث العادات والتقاليد جعلوني افقدها في لحظة وأصبحت مجرما أمام الله.
ربيت بناتي وتخرجن من الكليات في روما وتزوجن وعاشت كل واحدة في بلدة وتركوني مع إبنتي الصغيرة , والتي كنت في بعض الأحيان اناديها يا إبني الصغير بدلا من إبنتي الصغيرة .. لكنها فعلا كانت حلقة الإتصال بيني وبين بناتي الأخريات .. كانت زينة البيت الموحش بعد ما تركوني وذهبن إلي بيوتهن وأحوالهن .. كانت تردد لي .. يا بابا انا مش ممكن اسيبك .. سوف اكون معك علي طول .. دخلت الجامعة ... كانت لا تنسي ابدا أن تأخذني معها زيارات إلي إخواتها .. كان أبناء اخواتها الثلاثة يأتون عندي في اجازات المدرسة لكي يستمتعون بها .. الرب اعطاها نعمة المحبة والعطف والخدمة .. كانت " مهيّاصة " تـُحب الضحك واللعب مع الأطفال .. مع انها لن تتذوق طعم حب وإهتمام الأم .. كانت هي امنا كلنا , وإختنا , وإبنتنا . كانت هي المحرك والمفكر لأربع بيوت , مع ان كل بيت بعيد عن الآخر .. كانت إخوتها بالرغم من فروق السن بالنسبة لها يأخذن رأيها في امور كثيرة .. كان التليفون والموبايل لا يكف عن الرن من إخواتها أو أصدقائها أو حتي اعضاء كنيستها وكهنتها.
وفي إحدي الأيام تلقيت مكالمة من صديقة لها تخبرني أن إبنتي " سوزيت " في المستشفي ... وبسرعة طلبت تاكسي لأنني كنت قد تركت السواقة , فقد كنت اعتمد علي سوزيت في انهاء كل اموري . دخلت حجرتها , وأفاجأ بالدكتور يقول لي .. إزاي انتم تركتوها المده دي كلها من غير ما تكشف !!؟ . قلت له في إيه ؟ ... أرجوك طمئني ... وإذ اسمع ما كنت لا اتوقعه ابدا .. ابنتي في غيبوبة الموت لأن الكبد قد توقف تماما نتيجة سرطان منذ شهور ونحن لا ندري , وهي ايضا لا تدري.
جلست ابكي بجوارها .. كل شيء أمامي توقف تماما .. وبعد ايام قليلة ... طلبوا مني أن احضر لها راعيها لكي يصلي لها .. استدعت ابنتي الكبيرة الكاهن ... جاء وصلي .. وقرأ من الكتاب المقدس .. واخيرا فتحت عينيها لكي ترانا ثم ابتسمت .. ولم تغمضهما ثانية . صرخت بأعلي صوت ... " ابنتي سوزيت لآ تتركيني " ... أجابني القس وقال لي افرح " سوزيت في السما الان " .. قلت له وبأعلي صوت ... لكن أنا ؟! ... أنا لسه في الأرض
قلت في سري ونحن ما زلنا مُحلقين في الهواء .. الحقيقة انا وانت الآن لا طايلين سما ولا أرض ... بعدها بدقائق كانت الطائرة تلمس ارض مطار رومـــا ... ثم ودعته لكي أجلس في الترانزيت حوالي 4 ساعات لكي اكمل رحلتي إلي إبنتي في بوستون.
وعندما حلقت الطائرة في السما ... وجهت عيوني إلي رب السما .. مصليا : ساعدني لتكن غايتي هي السما!
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com