الحرب والقتل والإرهاب والتشرد ومواجهة الموت عدة مرات جعلت من "نار" الإبحار والغرق، الجنة والملاذ الأخير للشعب السوري للنجاة بأسرهم أملا في مستقبل أكثر إشراقًا، فأصبحت مصاعب مواجهة الموت حتى الوصول لدول أوروبا أهون من الموت نفسه في الحرب السورية.
يجلس أبوجنا، أحد لاجئ سوريا، يحضر ما يلزمه ويعينه على رحلته المجهولة لألمانيا، فأحضر حقيبة بلاستيكية كبيرة يحفظ داخلها أوراقه المهمة، وجواز سفره ليثبت هويته، إضافة إلى بعض الملابس الجديدة، بجانب بعض الأدوات التي تساعده إذا ما تعرضت السفينة للغرق، مثل كشاف "ليزر" يرشد السفن عن مكانه إذا غرق في المياه، وكريم مضاد للشمس لحمايته وأسرته من ضربات الشمس، والليمون ليقيه من "دوار البحر"، وبعض التمرات الجافة لسد حاجتهم من الجوع، ولم ينس المهاجر علبة السجائر الخاصة به.
حاورت صحيفة "جارديان" البريطانية، "أبوجنا" أثناء استعداده للهجرة بحرا من تركيا لليونان، ومنها للمجر ثم ألمانيا، ورصدت مراحل رحلة المعاناة التي يسلكها اللاجئين السوريين.
- تهريب اللاجئين تجارة تضرب أوروبا:
قبل بداية الرحلة يستعلم السوريون عن أسعار السفر وطبيعة الخدمات المقدمة، فبالرغم من كونها هجرة غير شرعية إلا أن إعلانات أصبحت رائجة على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
كانت صحيفة "واشنطن بوست"، رصدت أسعار التهريب التي وضعها مهربو البشر للمهاجرين غير الشرعيين، وأوضحت الخريطة:
سعر تهريب البشر من تركيا إلى ألمانيا تصل قيمته من 10 لـ12 ألف دولار، بينما الهروب عبر التاكسي من سيبيريا والمجر إلى النمسا من 1.100 لـ1.200 دولار، وتختلف الأسعار بشكل كبير عند الهرب من سيبيريا والمجر إلى حدود بودابست، فيصل المبلغ المدفوع إلى 200 دولار فقط، بينما من بودابست إلى فيينا من 650 لـ1000 دولار، ومن الحدود العربية في ليبيا إلى إيطاليا تصل التكلفة من 900 لـ4000 دولار، والصعود على متن قارب من تركيا إلى اليونان يكلف من 1000 لـ2000 دولار.
- رحلة صعبة عبر البحار:
لا تضمن قائمة الأسعار السابقة النجاة سالما من مخاطر العبور في البحار، فقد يشهد المهاجرون هلاكهم في رحلة النجاة بحياتهم، ففي إحدى هذه الرحلات التي رصدتها "الجزيرة الوثائقية" عن مأساة تهريب اللاجئين، تعطل أحد القوارب في عرض البحر بسبب زيادة حمولته من 300 لـ1860 راكبا بينهم 193 طفلا.
- الوقوف على الحدود المجرية:
لا تنتهي المعاناة بمجرد الوصول إلى حدود الدولة التي يتجه إليها اللاجئ السوري، فأغلب الدول الاوربية تتمسك بنص البروتوكول الدولي الذي ينص على أحقية اللجوء فقط عند الدولة التي نزل فيها أولا، وإذا اتجه منها إلى دولة أوروبية أخرى فيحق للأخيرة عدم استقباله.
ويواجه السوريون، عناء التعنت والعنف من الشرطة المجرية ضدهم، حيث قالت صحيفة "سي إن إن" الأمريكية، إن مسؤولا في شرطة المجر صرح بإرسال نحو 2100 رجل شرطة إلى الحدود مع صربيا لمواجهة تدفق اللاجئين، فيما قال المتحدث باسم الشرطة إنه تم استخدام الغاز المسيل للدموع داخل مركز للاجئين على الحدود الصربية المجرية.
- لا تراجع في مواجهة اللاجئين:
بعد وصول وفود كبيرة إلى صربيا، كانت المجموعة مكونة من رجال ونساء وأطفال من محافظة دير الزور السورية، جاؤوا مع موجة المهاجرين السوريين الذين قطعوا مسافات طويلة عبر البحر؛ لإيجاد مأوى لهم في البلدان الأوروبية.
فيما كان رجال الشرطة يحدقون بالمجموعة، صرخ أحد اللاجئين بالإنجليزية "عائلة.. أطفال"، والتفت إلى باقي المجموعة قائلا: "سنقول كلمة (أرجوكم) بصوت واحد، فربما يسمحون لنا بالعبور"، وبعدها هتفت المجموعة "أرجوكم، أرجوكم، أرجوكم"، في انسجام تام ثم صمتوا.
حاولت امرأة تحمل طفلا لا يتجوز عمره 18 شهرا الاقتراب من السياج، فإذ برجال الشرطة يرشون الرذاذ عليها وعلى المجموعة، وبدأت حالة من الفوضى والصراخ، وفيما كانوا يحاولون إبعاد الرذاذ عن أعيونهم وأجسادهم في حالة من الهلع والبكاء والألم، كانت الشرطة أهدأ ما يكون، وبعد بضع دقائق صعدوا إلى السيارة وانطلقوا، وواصلت المجموعة السير في الظلام وسط الأشجار لإيجاد طريق للعبور، وفقًا لما جاء في تقرير للصحيفة الأمريكية "نيويورك تايمز".
- الشعب المجري يزيد من معاناة السوريين:
لم يرحب الشعب المجري بالمهاجرين السوريين، فشهدت العاصمة "بودابست" اشتباكات عنيفة بين بعض مشجعي منتخب المجر واللاجئين السوريين الذين وجدوا في محطة القطار الرئيسية، واندلعت الاشتباكات بعدما هاجم بعض مشجعي المجر خلال رحلتهم إلى ملعب مباراة منتخب بلادهم أمام رومانيا ضمن تصفيات "يورو 2016"، حيث اعتدوا على اللاجئين السوريين الذين يركبون محطة القطار، ما أجبر الشرطة على التدخل للفصل بينهم.
- بداية انفراجة الأزمة:
بدأت تظهر علامات انفراجة الأزمة السورية في المجر مؤخرا، فبعد معاناة ظلت أياما، فتحت السلطات المجرية أبواب محطة قطارات مهمة في العاصمة "بودابست" في وقت مبكر الخميس الماضي، أمام مهاجرين عالقين بعد اشتباكات مع الشرطة جراء قرار السلطات منع سفرهم إلى النمسا وألمانيا، وعقب فتح أبواب محطة "كيليتي" اندفع اللاجئون العالقون نحو أرصفة المحطة لاستقلال قطارات تقلهم لدولتي النمسا وألمانيا، لكن لم يكن هناك قطارات مباشرة إلى غرب أوروبا، وأذيع إعلان باللغة الإنجليزية في محطة القطارات، يفيد بأن كافة القطارات المتجهة إلى دول أوروبا ألغيت والتذاكر ستكون مقبولة على متن القطارات المحلية.
- السوريون تحملهم أقدامهم إلى ملاذهم الأمن "ألمانيا":
توجه عدد كبير من اللاجئين السوريين إلى فيينا مشيا على الأقدام، لأنهم منعوا من ركوب القطارات المتجهة إلى العاصمة النمساوية، وقال مراسل "بي بي سي" ماثيو برايس، الموجود على طريق سريع على مسافة 20 كيلومترا من "بودابست"، إن عددا كبيرا من اللاجئين يسيرون على حافة الطريق متجهين إلى فيينا وهي مسافة تتجاوز 180 كيلومترا.
وأضاف برايس، أن معظم الذين تحدث إليهم سوريين أو عراقيين، حيث حمل عدد من المشاركين في المسيرة صورا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وقال أحد السائرين لـ"بي بي سي"، إنه سيواصل المسير إلى الحدود النمساوية ثم إلى فيننا ومنها إلى ألمانيا، مضيفا "لن نتوقف.. هدفنا ألمانيا وأمنا ميركل".
- نهاية الرحلة واستقبال حافل من الشعب الألماني:
تصل الرحلة إلى نهايتها، حيث استقبلت ألمانيا والنمسا معا آلاف المهاجرين الذين انطلقوا سيرا على الأقدام من "بودابست"، قبل أن تقرر السلطات المجرية نقلهم بحافلات إلى حدودها مع النمسا، وفق ما أعلنت المستشارة النمساوية.
فيما يأمل الناجون بدء حياة جديدة في ألمانيا، خالية من صوت الرصاص، وهدوء البحر القاتل، ويتمنى الآلاف غيرهم ممن يعيشون تحت وطأة الحرب في سوريا، الوصول إلى ما وصل إليه ذويهم، فمع استمرار الحرب في دمشق تستمر رحلات المهاجرين إلى أوروبا.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com