ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

أنا من جيل!

بقلم: مفيد فوزى | 2015-08-22 14:28:54

-١-

أنا من جيل عبدالناصر وارفع رأسك يا أخى وتأميم القناة ونكسة ٦٧ وعدّى النهار وسراى عابدين والملكة فريدة وحارة اليهود وزكى رسام روزاليوسف أشهر سكانها والغورية والملاية اللف، ومطابع حارة شق التعبان وجامع طومان باى وترماى ٣٠ لروض الفرج وأتوبيس ٨ للدوران مروراً ببيت حسين رياض أهم معالمه والبطرخانة فى شارع كلوت بك وسينما دوللى فى شبرا والأمريكين فى شارع فؤاد، جيل أوبرا العتبة الخديوية قبل أن تحترق والحناطير المنتظرة أمام كازينو بديعة، جيل إيموبيليا أنور وجدى وليبون الزمالك ويعقوبيان وسط البلد ورش القاهرة والجيزة بعربية البلدية ساعة العصارى، جيل «الأتومبيلات» كما كان يحلو ليوسف بيه وهبى ومحمد عبدالوهاب أن ينادى سائقه الأسمر «جهز الأتومبيل يا عبدالواحد»، جيل أكابر نادى الجزيرة الباشوات الساخرين من الثورة، جيل «التنظيم الطليعى» والصراع مع الإخوان وإعدام سيد قطب وتأميم القناة.

ولم أكن أدرى أن الزمن سيدور كما الأرض، وأن عبدالناصر صار «ضريحاً» وذكرى، وسراى عابدين أضحت «رمزاً» للملكية ومسلسلاً تليفزيونياً، وحارة اليهود صارت حكاية تروى، وتروماى ٣٠ وأتوبيس ٨ اختفيا والغورية صارت «أطلالاً» سياحية والملاية اللف صارت «بقايا أنوثة»، والبطرخانة صارت كاتدرائية فى العباسية، بناها البابا كيرلس بمباركة عبدالناصر، وشارع فؤاد أطلقوا عليه «٢٦ يوليو»، والعمارات العريقة بعضها تحول إلى رواية وبعضها طاله وجع السنين، والأتومبيل صار عربية وأحياناً «حبة»، أما عربية البلدية فخجلت من القمامة بعد أن صارت تلالاً وجبالاً، ولاتزال الحناطير تطل على استحياء بخيل هزيل بعد انصاص الليالى تنقل سائحاً أو اثنين إلى شارع الهرم الذى كان فيما مضى يتلألأ بمطاعمه وملاهيه، واليوم ملهى الأريزونا فقير الزبائن، بعد إغلاق ٦ ملاه لظروف سياحية، هو الوحيد الباقى، أنا من جيل نساء حفلات أم كلثوم وقد تبخترت شعورهن بتسريحات الجمال، ذلك الزمن بلا غطاء أو حتى إيشارب، كانت تشدو «مخطرتش على بالك يوم؟» فتهز نساء الحفل رؤوسهن والتيجان فوقها بحسرة وشجن..!

أما اليوم، فالأطفال الصغار «تبشنقن» بالحجاب القسرى المبكر لتغتال طفولتهن فى زمن الانغلاق ويتحررن يوماً بعد يوم.

-٢-

أنا من جيل أحمد بهاء الدين وصلاح عبدالصبور ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ والحكيم ولويس عوض وعبدالقادر القط وفوزى فهمى وسمير سرحان وعبدالرحمن الشرقاوى وأحمد حمروش وإحسان عبدالقدوس وأمينة السعيد وبنت الشاطئ ويوسف إدريس وسعد وهبة ورجاء النقاش وغالى شكرى وزكى نجيب محمود وسلامة موسى ونعمان عاشور ومحمود السعدنى وفتحى غانم وصلاح جاهين، وألفريد فرج وصلاح طاهر وجمال كامل وحسن فؤاد ومصطفى أمين وموسى صبرى.

تجولت فى بساتين الفكر وبقدر ما استطعت أن أنهل «نهلت» اقتربت من هؤلاء الرموز وبقدر ما استطعت أن أقترب «اقتربت» كان الكتاب «سندى» وكان للحروف، المطبوعة سحر خاص، كان لورق الكتب، أياً كان حجمها، جاذبية خاصة، صداقتى للحرف بدأت مبكرة، أنا من الجيل الذى درج على قراءة الصحف نهاراً والكتب ليلاً، كنت أتابع فى «الراديو الموبيليا» بعض المسلسلات مثل «سمارة» وأحببت سميحة أيوب، و«قاهر الظلام» عن قصة طه حسين لكمال الملاخ و«الحب الضائع» لسعاد حسنى، وكنت أتابع أحاديث التاسعة لطه حسين والعقاد وأحمد فؤاد الأهوانى، كنت أتابع نشرات الأخبار بصوت جلال معوض وفاروق خورشيد وسميرة الكيلانى وبديعة رفاعى وهالة الحديدى، كنت أتابع «جرب حظك لطاهر أبوزيد وأوائل الطلبة لعباس أحمد» كنت أتابع «أمسيات فاروق شوشة الثقافية».

الآن: أجدبت بساتين الفكر إلا قليلاً، فلم أعد أنهل شيئاً وأعيش على مخزون يعشش فى رأسى ولم يطله الصدأ. الآن: ماذا أتابع فى الإذاعة؟ شذرات من تسجيلات قديمة لنادية صالح حظيت بها فى مكتبة فلان. الآن: أى الأصوات الرصينة أحب سماع نشرات الأخبار منها؟ لا أذكر أحداً، أى برامج الأطفال أتابعها؟ لا أذكر سوى شذرات لأبلة فضيلة. الآن: هل هناك مسلسل إذاعى يشدنى؟ لا أذكر شيئاً، وربما كان ذنبى أن التليفزيون زحف على وقت الإذاعة وأسأل نفسى: هل ذهب عصر النجوم؟ والإجابة: ربما أعيش الآن وسط جيل مقطوع الصلة بالكتاب بل كاره من الأعماق للحرف، جيل مفطوم على النت، ويستمد ثقافته من النت ومعلوماته من النت ويستحم فى النت، ولهذا جاء الجيل ضحلاً ويعانى من «أمية ثقافية» وصارت مواقع الاتصال هى سر هزيمة شباب هذا الزمن فى المعلومات العامة، وأصبحت برامج التوك شو هى «كف هذا الزمان» الذى يقرأون فيه طالعهم وأحلامهم ومستقبلهم، وزاد التدنى الفكرى واضمحلت السبائك الذهنية واهترأ الفكر وربما عاد البعض للكتاب يعوض الجهل والفقر وأنيميا الثقافة، هل تساعد المدرسة على القراءة مثلما كنا نطالع فى مكتبة المدرسة فى حصص للقراءة؟ لا هل يستعير أحد كتاباً من مكتبة؟ لا، فلازال جيلى يبحث عن الكتب ويشتريها ليقرأها، لا يقتنيها.. وجيل هذا الزمان منكفئ على النت.

-٣-

أنا من جيل كروان حيران وجفنه علم الغزل وجددت حبك ليه ويا خلى القلب، جيل الشدو الذى يحرك الدمعة فى الأحداق ويرسم الرعشة على الشفاه، جيل كلمات نزار وحروف مرسى جميل عزيز وجماليات الأبنودى وموسيقى رامى بالمعانى وألحان السنباطى والطويل والموجى وبليغ وأحمد صدقى، جيل الغوص فى الوجدان والإبحار بين شواطئ النفس والعزف على أوتار الروح، لم نسمع أجمل ما سمعناه بأرجلنا كما تنبأ عبدالوهاب لجيل الجينز يوماً!

تسلطنت الأذن المصرية وشربت من نبع الفن الصافى ولايزال جيلى يبحث عن عبدالوهاب القديم و«خايف أقول اللى فى قلبى» ويفتش عن أم كلثوم «أغار عليك من نسمة الجنوب» ويفرح بنجاة «كلمنى عن بكرة» وينتشى بحليم «جبار ومغرور حبيبى» وأين ليلى مراد «ويا رايحين للنبى الغالى» ويا جمال فايزة أحمد وهى تتلو علينا بطلاوة «رسالة من امرأة حاقدة» لنزار قبانى ثم داهمتنا كلمات قطعت متعتنا واقتحمت أذنى وأذنك من عينة «قوم اقف وانت بتكلمنى» و«سيب وأنا أسيب» و«على الصدر تفاحتين ونزلت حبتين معرفش رايح فين، لقيت رجلين حلوين» حتى وصل الأمر للقبض على كلمات سابحة فى بحر الخجل غافلتنا وجاءت من أغانى تحت السلم «سيب إيدى، ابعدى عنى، أنا مش طايلك، ياريت تتلمى وبلاش حسالة، الواد ده واقف ع الباب، فاكر نفسه عمرو دياب»، وتغنى «منة» بمؤخرتها وصدرها العارى! زمن!!

-٤-

أنا من جيل جدول الضرب و٦x٥ بتلاتين و٧x٦ باتنين وأربعين، جيل الحسابات البسيطة والمخ الذى يحسب الحسبة فى ثانية، جيل الجمع والطرح والضرب والقسمة «والمقسوم لك حيجيلك» ولم يعرف جيلى حينذاك الآلة الحاسبة ولا حسابات الآلة ولم تكن الأرقام قد كبرت وانتفخت واستفحلت ولم تعد الأصفار ذات قيمة، وصارت الحاجة ضرورية لشاشة وأزرار تظهر حاصل الحسبة ماعدا السهو والخطأ، جيل الأرقام العذراء قبل أن تصبح حاملاً فى الملايين، أنا من جيل القلم الكوبيه الذى طردته المكتبات حين اكتشفت عدم جدواه إلا عند موظف أرشيف عجوز ولكنه لم يعد قادراً على الجمع أو الطرح وأصبحت «قسمته» أن يخرج من الملعب تماماً بكارت أحمر! وجاء زمان البلوتوث الذى يرشقك بميكروب ويسرق الكحل من العين ويسحب من رصيدك البنكى ويتنصت عليك، زمن الآلات «الذكية» التى تستغفلنا بإرادتنا وأنا من جيل المصروف «ولا أطالب بزيادته ولا أجرؤ» حيث للأب فى زمنى هيبة وقامة وشخطة وتوقير وعقاب وتربية وحرمان، كانت متعتى الوحيدة سينما الأهلى ببنى سويف حين تعرض سفير جهنم وكرسى الاعتراف وعدو المجتمع وغزل البنات وإسماعيل يسين بوليس حربى وأنا بنت ناس وكنت أدخل الدرجة الترسو لأن التذكرة تمنها ٧ مليم، كنت أسحب معى كرسى المطبخ لأجلس عليه بدلاً من افتراش الأرض حيث أخشى الزواحف وكنت أعيش المتعة بقلب خال وصدر بلا هموم وقرطاس لب من مقلة الرياضى ولم يكن يضايقنى سوى من يسبق الحوادث للفيلم بصوت عال ويخجل من نفسه بعد قليل، وعشت زمان الفوتيل لوج وزمان التعليقات الخادشة للأذن والتعليقات الممجوجة، عشت زمن الصفير والصراخ الهستيرى فى مشهد قبلة أو حضن، ولا أملك الاعتراض وإلا سمعت ما لا يرضينى ولذلك قاطعت العائلات الذهاب للسينما بعد أن كانت فى جيلى أحلى خروجة، الذهاب إلى سينما ريتس الشهيرة.

تدنت لغة رواد السينما رغم الهواتف الذكية والتحضر الكاذب، صارت التعليقات الجارحة أسلوباً رغم وجود الآى باد والتويتر والواتس أب هذا الزخم الإلكترونى، أما «مواقع التواصل الاجتماعى» فهى - رغم المعلومات الوفيرة قد تحولت إلى «صفيحة زبالة» ولا أفضل الخوض فى فحواها فلا أزكم أنوفكم برائحة عفنة، لكنه صار يدير حياتنا وله تأثير سلبى.

-٥-

أنا من جيل المواعيد المنضبطة، حتى الآن «!!» رغم الزحام والمرور وتكدس السيارات، التزامى بالمواعيد حسب دقات ساعة الجامعة بالدقيقة والثانية لا تقديم ولا تأخير، جيل الساعات التى نقدمها دقائق لنصل فى الموعد المحدد وربما قبله، وفى باكورة أيام جيلى، كان الذهاب فى الموعد آية احترام للشخص المقصود واحترام لنفسى، لم أعرف مواعيد ما بعد المغرب بسبب مرور أو مواصلات أو حادثة تنتظر الونش! جيل التاكسى الأبيض وأسود الذى يفتح لك الباب والعداد هو الحكم ويعيد إليك الباقى بالمليم ويدعو لك بالصحة، وعشت زمان القسوة حين يرى عائلة وأطفالاً ويمرق أو يغطى العداد بفوطة فإذا وقف التاكسى وكان مشوارك مختلفاً عن سكته، أنزلك بصفاقة وبرطم بكلمات أظنها غير مهذبة، اختلطت الأمور وضاعت كلمة العيب فى ظروف غامضة، فأنا من جيل يحترم جلال الموت ويجلس فى سرادق المعزين مطرقاً الرأس بصمت مهيب ولا أتكلم والمقرئ يتلو آيات القرآن ولا أغادر إلا بعد أن يقول «صدق الله العظيم»، عشت زماناً ما عاد للحزن على الميت أى جلال، فالسرادق يصير حفل علاقات عامة وتعارف وتبادل أرقام تليفونات ومواعيد وخرائط للكمباوند وضحكات أحياناً وكاميرات مصورين تعبث بجلال اللحظة وكأنه حفل افتتاح كافيه جديد! يبدو حزنى مضحكاً وسط هذا الجو العبثى.

-٦-

أنا من جيل، الأم فيه كانت مسموعة الكلمة ومهابة ومصونة ومحترمة، لم أجرؤ يوماً أن أقول لأمى - كجيل هذا الزمان - «بطلى مواعظ»، وكلام أبويا دستور ولم يخطر ببالى ولا حتى فى عقلى الباطن أن أقول له «انت كبرت وعجزت» والمدرس «كنا نحبه ونخشاه» فإذا غضب كان الزلزال، أتذكر فايق أفندى بعبع المدرسة ولا صلاح نصر فى زمانه، كان ضرباً من الخيال أن أمد يدى على مدرسى أو ألمسه، كجيل هذا الزمان الذى يشتمه ويهينه، كان فى جيلى «مجلس آباء» يعرف أحوالى الدراسية والسلوكية وأبى على صلة به كنا نرضى بالقليل الذى يطرح الله البركة فيه، لم نملك سوى الطموح لا الطمع، كنا نلعب الكرة الشراب وفى جيلى كان كابتن مصر «حمدى رضوان» ولم نسأل بعضنا أين يصلون، كنا نهاب عسكرى الدورية، كان طويلاً و«ملو هدومه» وإذا خرجنا فى مظاهرة، نهتف «اليوم حرام فيه العلم» أو «مصر والسودان لا ينفصلان»، فإذا ما ظهر الممباشى أحدبيه الح؟؟؟؟ تفرقنا وعدنا لبيوتنا دون أن نعتدى على أحد أو نشعل النار فى المدرسة كمظاهرات «الربيع الخريفى»، كنا فى جيلى نعبر عن آرائنا ونمضى.

-٧-

صار الود بأجر، بعد أن كان بلا أجر وصار الحب «رنة موبايل»، والزواج «طلاق مؤجل» والتحرش «ملمح شارع» والدين «طلقة رصاص» والشباب «حفلة ترامادول» والغناء «حشرجة حناجر» والفلوس «تشترى كل شىء» وصارت الصداقة «لحظات عابرة» وصار الأبيض وأسود «طاقة نجاة» وصرت «أستدعى الذكريات».

لهذا أشعر بكثير من «الغربة» فى هذا الزمان.

نقلا عن المصري اليوم

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com