قد لا يهتم بسطورى التالية سوى الصحفيين، رغم أن الأمر فى صميم حياة المصريين، فغياب الرقيب الشعبى أو تغييبه بعد ثورتين هو بمثابة انتحار يُدفع إليه الجميع، سلطة ومؤسسات ورأياً عاماً، فالصحف التى لا ترى سوى بعين سلطتها ليست إلا صحافة معلّبة تفتقد المعايير، وتخالف الضمير، وتخون القارئ، وتتنازل عن العلياء، علياء التعبير عن مواطنيها. الصحف ليست فروعاً لمؤسسة أو حكومة أو وزارة أو شركة، الصحف التعبير الأهم عن الرقابة فى عالم يخلو من الانضباط، ويسوده الفساد وتناسى الرؤية، ويغرق فى الخرافات، ويؤمن بالدروشة، ويؤلّه أى حاكم، ويخضع للقالب، وينسحق أمام الجهل. يحكى زميلنا العزيز مجدى الحفناوى، مدير التوزيع الأهم للصحف فى مصر، أنه التقى «عم محمد»، أحد باعة الصحف فى الساحل الشمالى الذى يبلغ عمره 70 عاماً، فقال له ملخصاً حال الصحف عام 2015: «يا عم مجدى.. طول ما البضاعة شكل بعضها هترخص ومحدش هيشترى.. يا عم مجدى تقدر تفرّق الآن بين جرنال الحكومة والجورنال المستقل.. ولا جورنال أصفر حتى؟ يا عم مجدى خليها على الله». شهادة عم محمد طعنة فى أحشاء صحف استجابت لهوى لا يدرك قيمتها، ولإرادة لا ترغب فى وجودها، ولغايات مريضة لتضليل الشارع، ولأغراض تسعى فقط للدعاية وتصوير الحياة على أنها وردية، الثقة التى أولاها قراء أو متلقون للصحف تكلست وفى طريقها للسرطنة لأن الأمر كما يقولون بعاميتنا: زاد وفاض ومسخ.
اليوم حضر الخوف من أن تكتب شيئاً عن خداع الجماهير، اليوم تخشى أن تلتزم التوازن فيبدأ التصنيف والتهمة على الرفوف: «الحقوا إخوانى أو خاين أو عميل أو نخبوى لا يعرف معنى الحروب التى تخوضها مصر»، وفرقة الرقص المكتوب والمسموع والمرئى للطبل والزمر على أهبة الاستعداد لتقتص من أى منبر يتذكر قيمة أو معياراً مهنياً، فالحياد عند هؤلاء جريمة حتى وإن كنت مؤمناً بالمسار، الأغبياء يعبّدون طريقاً للظلاميين ويمنحونهم أسباب الحياة، بل يبنون جدراً جديدة فى تنظيم لفظناه لأنه أراد أن يفعل فينا مثلما يريد المطبلاتية.. «أن نكون شعباً منسحقاً منكفئاً لا يسأل عن حريته».
الصحف فى أزمة، لأن الصحافة المهنية بريئة من هذه القطع الباهتة والمعالجات السطحية والتغابى عن الحقائق وتغليب الانحيازات والخشية من السلطة. الصحافة خُلقت لتكون على يسار أى سلطة، حتى ولو حكمنا رسل أو أنبياء، وأى سلطة إذا كانت تريد خيراً لوطنها عليها أن تؤمن بالاختلاف وتنتصر للنقاش. قيمة الحقيقة لا ينبغى أن تُهدر لأن الصالح يقتضى أن ندفع بعضنا بعضاً حتى لا تفسد الأرض، فالأمور ليست على ما يرام وفق ما يصدر إلينا، فالمرحلة الحالية تدار بمنطق «ستيناتى» بحت لن يذهب بنا إلى المستقبل لأن أسباب التقدم ليست حاضرة، ومعايير النجاح تائهة، والسائد رفع لأسقف توقعات المصريين يمثل لعباً بالنار وتكريساً لماضوية فعلها كثيراً رجال مبارك.
ما زلنا فى عامنا الأول، ومن ثم إذا لم يحضر الرشد ويُرى اليوم بعين 2015 ولا يُرى بعين الماضى وشكله ورسمه، فالمصير ملىء بالمفاجآت غير السارة. الصحف تجرى بالمشوار إلى النهايات، وبدأت فى كتابة أول سطور شهادة الوفاة، فالرشد واجب من السلطة والصنّاع حتى لا نرى فى غياب الحقيقة آخرين من الخارج يملأون فراغاً ويشكلون رأينا وقضايانا واهتماماتنا وتوجهاتنا. الأمر أخطر مما يتصور ألتراس السلطة، المسألة مسألة أمن قومى، فإن أغلقت أبواباً أو أصواتاً فى الداخل ستمكّن ألف صوت فى الخارج من عقول وقلوب مواطنيك. الصحف على حافة الانهيار، فلترَ لنفسها طريقاً للمهنية لا يسعه انحياز، أو تقتله مكالمة، أو تعرقله سذاجة..!
النجاح لن يكون حليفاً لأى إدارة حتى وإن بدت الخرسانة منجزاً، فالغد يبنيه البشر وليس الحجر، فإن لم تحترم الشعب وتعلمه فهو قطعاً سيعلمك، بناء البشر قبل الحجر.. نكرر النصيحة: الصدق منجاة، والكراسى زائلة، والقرار حكمة، والرشد واجب، والاختلاف رحمة، والمسار متفق عليه، والوطن أعلى وأبدى من الأشخاص. دعونا نصوّب المسار ونخرج من تجربة الشهور الماضية بدروس لا بد من إدراكها قبل أن تتجاوزنا ونبكى على اللبن المسكوب ونرى وطناً لا يختلف كثيراً عن عقوده السابقة بالخلطة الشهيرة «فقر وقبح وجهل وجريمة وعشوائية ووطن مأزوم تابع»..!
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com