فى أسبوع واحد (١١ - 17/7/2015) اتخذت برلمانات أربعة بُلدان حول العالم قرارات مصيرية صعبة وخلافية، ولها تداعيات شتى، لا فقط على شعوبها، ولكن أيضاً على بُلدان الجوار، إن لم يكن على العالم كله، لعشرات السنين فى المستقبل. ولكن المهم فيها جميعاً أن القرار الخلافى تم اتخاذه بطريقة ديمقراطية بعد حوار عاصف، ومظاهرات، صاخبة فى كل من البُلدان الأربعة، التى تمتد من اليابان شرقاً، إلى الولايات المتحدة غرباً، عبر إيران واليونان.
1ـ اليابان تستعيد قدراتها العسكرية، فبعد سبعين سنة من هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، على يد الولايات المتحدة وحُلفائها، كانت وثيقة استسلام اليابان تُحظر عليها بناء قوات عسكرية ذاتية، أو استخدام أى قوات عسكرية يابانية، خارج حدودها. ورغم ما انطوت عليه وثيقة الاستسلام تلك من إذلال للروح الوطنية اليابانية، إلا أن ثلاثة أجيال من اليابانيين شبّوا على نظام سياسى يُعلى من قيم التعايش السِلمى والإنجاز العلمى والتكنولوجى، ولا يُنفق إلا نسبة ضئيلة من الناتج القومى اليابانى على الشؤون الأمنية. كما استراح معظم اليابانيين إلى ترك مسؤولية الدفاع عن بلادهم إلى الولايات المتحدة. وأدت تلك الترتيبات إلى إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع اليابانى خلال السنوات العشر التالية بعد الحرب العالمية الثانية (1945-1955)، ثم فى العقد التالى (1955-1965) إلى نمو الاقتصاد اليابانى، ليصبح رابع اقتصاد فى العالم، وليصبح قاطرة تجُرّ اقتصاديات بُلدان الجوار الأخرى، إلى مستويات غير مسبوقة من النمو، استحقت معها تعبير «النمور الآسيوية» Asian Tigers. وهى كوريا، وتايوان، وسنغافورة، وتايلاند، وماليزيا، وإندونيسيا. وأصبحت اليابان ومعها هذه النمور الآسيوية ثالث أكبر كتلة اقتصادية فى العالم ـ بعد أمريكا الشمالية (نافتا NAFTA) والاتحاد الأوروبى (E.U). ولكن كالعادة، تؤدى القوة الاقتصادية المُتنامية، إن عاجلاً أو آجلاً إلى تطلع أو احتياج إلى قوة عسكرية موازية لحمايتها وتأكيد المكانة الاستراتيجية لأصحابها. وفى حالة اليابان ساعد على هذا التطور، عاملان، أولهما، رغبة الولايات المتحدة فى التخفيف من أعباء مسؤولياتها الدفاعية فى شرق آسيا من ناحية. وثانيهما، التفرغ لاحتواء المارد الصينى من ناحية ثانية، بعد أن أصبح الاقتصاد الصينى ثالث أكبر اقتصاد فى العالم فى مُقتبل القرن الحادى والعشرين، والمُرشح لأن يصبح الثانى مع عام 2025، والأول عام 2050. إلا أن بعث العسكرية اليابانية من جديد، بعد سبعين عاماً من الكمون، واجه مُعارضة شديدة من الشباب اليابانى، إلا أنه رغم المظاهرات الصاخبة، وافق البرلمان اليابانى، بأغلبية طفيفة، على بناء قوة عسكرية يابانية، واستخدامها خارج الحدود. أى أننا هنا فى الوطن العربى والشرق الأوسط علينا أن نتوقع إمكانية ظهور قوات وبوارج بحرية يابانية فى المُحيط الهندى وخليج هُرمز والبحر الأحمر خلال سنوات معدودات!
2ـ طهران وواشنطن تتصالحان. بعد ما يقرب من أربعين عاماً من التوتر فى العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، فى أعقاب الثورة الإسلامية ـ الإيرانية، وأزمة الرهائن المُحتجزين فى السفارة الأمريكية بطهران، ثم المحاولات الأمريكية ـ الأوروبية لاحتواء الطموحات النووية الإيرانية، والتى رأت فيها إسرائيل وبُلدان مجلس التعاون الخليجى (السعودية ـ عمان ـ الإمارات ـ البحرين ـ قطر ـ والكويت) أخطاراً على أمنها. وبعد مفاوضات طويلة ومُعقدة، توصلت الأطراف المعنية إلى اتفاق يسمح لأمريكا وحُلفائها الغربيين بالتفتيش على المُفاعلات النووية التى تملكها إيران، للتأكد من أنها لا تنتج من المواد الثقيلة ما يكفى لتصنيع أسلحة نووية، وذلك فى مُقابل إلغاء العقوبات الاقتصادية التى كانت مفروضة على إيران، والتى أدت خلال السنوات العشر الماضية إلى توقف النمو الاقتصادى الإيرانى والعُزلة الدبلوماسية والثقافية لإيران فى المجتمع الدولى.
وقد ابتهج الإيرانيون فى الداخل بالاتفاق، وسهروا ليلة رمضانية (27 رمضان) فى احتفالات صاخبة، خاصة أن أخبار الاتفاق تزامنت مع ليلة القدر. وعلى الجانب الأمريكى، فرغم مُعارضة الجمهوريين فى الكونجرس، وكذلك اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة، للاتفاق، فإن الرئيس الأمريكى باراك أوباما، ومعه معظم رجال الأعمال الأمريكيين الذين يتطلعون إلى السوق الإيرانية العملاقة (80 مليوناً) لمزيد من الصفقات.
أما فرحة الرئيس أوباما، فهى تتويج لعدة انتصارات فى السياسة الخارجية، بعد استعادة وتطبيع العلاقات مع كوبا، ودعم استقلال أوكرانيا فى مواجهة مُخططات الهيمنة الروسية. وقد حاول تهدئة مخاوف إسرائيل واللوبى الصهيونى، بوعود بمزيد من السلاح المتطور لإسرائيل ـ وهو ما يضمن له أيضاً تأييد لوبى آخر فى أمريكا نفسها، وهو المؤسسة الصناعية ـ العسكرية. أما بُلدان مجلس التعاون الخليجى، فمن المُرجّح أن توقع معها الولايات المتحدة اتفاقات دفاعية، وكذلك تزويدها بسلاح متطور.
3ـ اليونانيون يتجرعون أشد الأدوية مرارة. أما التطور الدرامى الثالث فى نفس الأسبوع (15-17/7/2015) فهو لعبة شدّ الحبل التى استخدمها رئيس الوزراء اليونانى الشاب، ألكسيس تسيبراس، مع الدائنين الأوروبيين، ففى مواجهة الشروط التقشفية الحادة لهؤلاء الدائنين، طرح تسيبراس حزمة الشروط الأوروبية على الشعب اليونانى فى استفتاء عام، وحض هو الناخبين على رفض تلك الحزمة (15/7/2015). وهو ما حدث بأغلبية تُقارب الثُلثين، وهو ما كان ينطوى على إعلان إفلاس الدولة اليونانية لعدم قدرتها على الوفاء بديونها (أكثر من خمسين مليار يورو)، والخروج من منطقة اليورو، والعودة لاستخدام العُملة اليونانية القديمة، وهو الدراخما، أو العودة وقبول نفس الشروط الأوروبية، التى رفضها الناخبون اليونانيون، قبل عدة أيام.
والطريف والعجيب فى الأمر أن نفس رئيس الوزراء اليونانى، ألكسيس تسيبراس، عاد وحض الشعب والبرلمان قبل أيام (17/7/2015)، حيث إن ذلك رغم مراراته الشديدة، هو أفضل البدائل. ولن يكون هناك رابح فى هذه التراجيديا الإغريقية، إلا ربما ألكسيس تسيبراس، الذى يمكنه أن يُخرج لسانه ويرفع حاجبيه للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وبقية زُملاء الاتحاد الأوروبى، وذلك لقدراته فى استمالة الرأى العام اليونانى من النقيض إلى النقيض. ولكن هذه الخيلاء لرئيس الوزراء لن تعفيه من دفع ثمن سياسى باهظ، إن عاجلاً أو آجلاً.
وتظل الديمقراطية هى المُنتصر النهائى من طوكيو، إلى طهران، إلى اليونان، إلى واشنطن. فبفضل المُمارسة الديمقراطية استطاعت البُلدان الأربعة ـ من أفقرها وهى اليونان إلى أغناها، وهى الولايات المتحدة، أن تتخذ أجرأ القرارات، رغم كل مرارتها. ولله فى خلقه شؤون.
وعلى الله قصد السبيل
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com