أحمد رجب
أحد وجوه النظام الفاشي، يعرّفها الفيلسوف الإسباني، خوسيه أورتيجا جاسيت، في كتابه «عن الفاشية» بأنها «تحتوي على أكثر المضامين تضاداً، تقدم نفسها باعتبارها صورة للدولة القوية، بينما تستخدم أكثر الوسائل قدرة على تفكيكها». كيف يستطيع النظام الفاشي هدم الدولة؟، كيف يستطيع جيش المخلصين المتحمسين الهاتفين «تحيا الوطن» هدمه؟ كيف يستطيع من يحمل لواء المؤسسات ويتنفس هيبة الدولة ويُخرج للوطن حُبًا وحماسًا ولهيبًا، أن يهدم، بوعي كامل أو حتى دون وعي، هذه الدولة؟ أهلاً بك في مصر.
يومياً.. تقضم السلطة التنفيذية من سلطات القضاء،تصرخ في وجهها وتطالبها بأحكام أشد وأقسى. ومدفوعة بحماس الجمهور، تستسلم السلطة القضائية، تُرشح قوانينًا للتغيير وتفرغ محاكمًا من معانيها. العدالة القضائية، التي يُرمز لها عادة بـ«سيدة محجوبة البصر تحمل ميزانا» لأن عليها ألا تحكم بمشاعر وإلا تميز بين مواطنين، باتت قادرة على الحكم بمكيالين وثلاثة وأربعة. تكره متهميها وتصرخ بذلك للإعلام، تجلس على منصة العدالة لتثأر بدلا من أن تستشعر الحرج. تُصاغ القوانين والآليات من جديد، من وحي لحظة وتحت ضغط شعبي وحكومي، لتثأر الدولة بيد صُنعت لتعدل، والفرق كبير. بعد قليل، لن يُصبح للعدالة معنى، سيثأر الجمهور لموتاه في الشارع، على قارعة الطريق، ووقتها ستفقد الدولة أحد أهم مقوماتها، إقامة العدل.
يوميا، يٌربي النظام الحاكم وحشا جماهيريا متحمسا، يُلهب مشاعره ويدغدغها. يعلفونه أكاذيب، ويقدمون له القرابين، يخرّبون عقله ومنطقه ومعاييره، وينطلقون في الكذب والكذب والكذب. يطاردون كُل من يفكر مختلفا، كُل من يهمس معترضا، فلا يبقى فيها إلا صوت واحد، جهوري، غبي، مهووس، يهتف للوطن نشيداً حماسياً، بينما تغرق السفينة. ويغرق معها دستور، تنص مادته الخامسة على التعددية الحزبية والسياسية، بينما يُغتال معنويا كُل يوم أي معارض. وتنص مادته التاسعة على تكافؤ الفرص بين المواطنين فيما تورث المهن في الشرطة والقضاء علنا. وتنص مواد أخرى يتضمنها على حقوق المرأة والمساواة والرقابة ومكافحة التعذيب، ويوميا يتم مخالفتها، كما تتم مخالفة مواد وبنود دستورية أخرى تجدها هُنا. الخطوة الثانية لهدم أي وطن، هي هدم دستوره.
تحتكر الدولة في التعريفات الأكاديمية العنف المشروع، وتمارسه بمعايير وضوابط وأخلاقيات. وهنا وبعدما تحول الحفاظ على هيبة الدولة بذاته إلى هدف، ومع هيستيريا جماهيرية متحمسة لمحاربة العدو، أهملت الدولة أخلاق ومعايير وضوابط استخدام العنف، وأصبحت بيانات وزارة الداخلية تحتوي على كلمات مثل“تصفية” دون مواربة. وأصبح الخطف دون توجيه اتهامات والقتل خارج إطار القانون ممارسات عادية، لا يشعر النظام اليوم بكارثيتها ولا بأثرها البعيد على الدولة.
بين مجلس شعب لم يظهر للنور وأجهزة رقابية اُعتمد قانون خاص يعطي الرئيس وحده الحق في ذبحها، من يحاسب رأس السلطة التنفيذية؟ هل الرئيس إنسان لا يخطئ؟ في ظل غياب المعارضة وتخوين وإقصاء كُل من يهمس معارضا، وتسويف مجلس الشعب إلى أن يشاء الرئيس، وتخويف الأجهزة الرقابية بقانون، من يستطيع في هذا البلد أن يقول للرئيس إنه مخطئ؟ من يستطيع ببساطة أن يراقب أداءه؟ تقوم الدول الحديثة على توازن دقيق بين السلطات بأن يكون لكل منصب من يراقبه، فلا شخص ينفرد بالسلطة، ولا شخص فوق الحساب. ولكن يبدو أن مصر ليست دولة حديثة، أو هكذا يراد لها.
الآن في مصر نظام يواجه عدوًا حقيقيًا مثل التطرف والإرهاب، أو وهميًا مثل المؤامرات الماسونية و«حروب الجيل الخامس». ولهذا النظام حركة جماهيرية واسعة تُنظّم أحيانا وتكتفي بالتشجيع أحيانا أخرى. جماهير غير مؤدلجة ولكنها تؤمن– والفضل يعود لآلة كذب منظمة ومنحطة– بمجموعة من الأساطير مثل «مصر محروسة» و«الرئيس لا يخطئ” فإعلامه يمجد في القيادة، ويوظف الحرب من أجل انتصارات زائفة.
هذا كُله بالإضافة إلى ما لايمكن قوله، جزء من سيناريو مرسوم بقصد أو من دون قصد لهدم الدولة وكسر مؤسساتها بحجة محاربة التطرف. لايوجد عاقل مع التطرف. ولكن كُل عاقل، ضد مايحدث بحجة محاربة التطرف، ضد هدم الدولة بحجة محاربة التطرف، ضد تخريب منظومة العدالة أيضا بحجة محاربة التطرف، ضد تحويل البلد إلى نظام شمولي يحكمه ويفكر ويحلم له شخص واحد بحجة محاربة التطرف، ضد التحول إلى دولة أمنية بلا ضوابط ولا محاسبة بحجة محاربة التطرف، ضد هدم الدولة بشكلها الكلاسيكي من سلطات مستقلة تنفيذية وتشريعية وقضائية بحجة محاربة التطرف.
تذبل بلادنا بين يدينا وفي أحلامنا، تنطوي الأمنيات الجميلة، وتترك خلفها لوحة مُرعبة رديئة لا ألوان فيها، تليق بدولة بلا مواطنين، يحمل سُكانها أرقام بدلا من أسماء، ويحمل هواؤها أجهزة تنصت، وسماؤها مظللة بأعلام يخافها الجميع قبل أن يحبوها.
يقول مُريد البرغوثي:
يقول السلطان لنا:
شدوا الأحزمة لأجل الوطن
الزموا الصمت لأجل الوطن
أطيعوا الأمر وأهل الأمر لأجل الوطن
و موتوا من أجل الوطن
فقلنا: مهلًا نحن الوطن
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com