-١-
لم يكن الزمن الجميل مقتصراً على نجوم السينما الأوائل وحناجر الغناء التى صهللت فى ليالى مصر، ولم يكن مقتصراً على مسرح اكتملت أركانه وزلزل الصالات تصفيقاً، كان يزين عروة الزمن الجميل أطباء ومحامون ورجال وأدباء صنعوا وجدان أمة، كان هناك مصطفى مرعى، المحامى، وشوقى الخطيب، وكان هناك الشيخ الغزالى والشيخ الباقورى والشيخ الشعراوى ومن أدباء زماننا الجميل صلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوى والخميسى والسعدنى الكبير وكامل الشناوى ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس، ومن بين أطباء الزمن الجميل كان ياسين عبدالغفار ومصطفى المنياوى.. وأحمد شفيق، جراح المسالك البولية، الذى منحه مرضاه لقب الباشا، كان شفيق هو أحد وجهاء المدينة وتعدت سمعته العلمية حدود مصر وصار له مقعد دولى بين أطباء العالم فى مجاله وتخصصه وعمليات جراحية تحمل اسمه، وفى كلية الطب كان «أستاذاً» يشار إليه وكأنه واحد من نجوم الأطباء فى زمانه، وكان كذلك.
-٢-
كان أحمد شفيق - الطبيب لا السياسى - نموذجاً فريداً فى الأناقة ويحرص على مظهره، لافتاً النظر - دون تعمد لربطة عنقه ومنديل الجيب المتناغم مع خطوط بدلته، كان أنيقاً لا متأنقاً، وكان يلفت النظر فى المحافل الدولية بطلعته، كان يرى أن «الأناقة عنوان طبيب» وسلوك فى غرفة العمليات ومظهر للرقى الاجتماعى، وقبل أناقة أحمد شفيق كان علمه وثقافته، كان يقول إن الطبيب الذى اكتفى بتخصصه ليس طبيباً ناجحاً لأنه بلا ثقافة تسمح له بدخول المجتمعات، كذلك المهندس الذى انغمس فى تخصصه ولم يقرأ كتاباً أو يتذوق شعراً هو مهندس محدود النجاح والذهن، من هنا تعددت قراءات أحمد شفيق وينابيع ثقافته وكنت وأنا أحاوره - كصحفى فى أول الطريق - تتصدره ثقافته العامة وحين أعود لأوراقى أو بعض شرائطى المسموعة حيث كان يحلو لى تسجيل حواراتى معه فلا أفقد معلومة واحدة، كان طبيباً غزير المعلومات.
-٣-
أحمد شفيق هو أول من علمنى أن «مافيا الدواء أكثر شراسة من مافيا السلاح»، هو الذى نبهنى إلى أن منصب «مدير المستشفى» فى العالم المتقدم هو من أهم المواقع فى العمل الصحى، فهو يجمع بين أساليب العلاج والحزم الإدارى الذى يدير به أدوات المستشفى من أطباء وجهاز تمريض، هو الذى كان ينادى بالبحث العلمى «حتى لو خاب مرة، ينجح مرات» وفى اجتماع ضم كل رموز الدولة صرخ أحمد شفيق من مقعده «الخيبة والفشل والتخلف وجوه لدولة أدارت ظهرها للبحث العلمى»، وعندما سئل: ماذا قصدت؟ قال بشجاعة: نسمع عن البحث العلمى ولا نمارسه! وأضاف: نتشدق بالكلام عنه دون جهد يذكر، لاعب الكرة فى المقدمة والباحث العلمى فى سبنسة الاهتمام.
أحمد شفيق هو صاحب النداء بأن طالب الطب ليس كغيره فى الكليات الأخرى، لابد أن يرى بعينيه ويجرب ويفشل وينجح ويتزود خبرة ويقرأ حتى يجيد حقن مريض فى الوريد فى أول اختبار صغير له، هو الذى كان يقول «العالم يلهث بحثاً وراء حلول شفاء من أمراض حيّرت البشرية ونحن نجرى وراء ترشيحات مستشارين طبيين فى عواصم العالم لنقبض بالدولار»، هو الذى نبّه إلى أهمية «معاهد علمية منتجها تمريض يحترم المهنة والسمعة»، هو الذى قال لى مرة إننا «لا نعرف عن فيروسات العالم إلا جزءاً من ألف، والباقى مجهول»! هو الذى كان يقول لطلبة الطب فى محاضراته «العناية بالمريض بعد الشفاء النسبى أهم من العناية به وهو مريض».
دخل أحمد شفيق ذات مرة «غرفة إنعاش» وأذهله ما رآه فى قصر العينى وصرخ فى وجه الأطباء الشبان والممرضات «ده محل سباكة مش عناية مركزة»! كان أحمد شفيق يقيس أى عملية جراحية بطقم التمريض لا الأطباء، وكان يجاهر «لن نقول فى مصر صحة دون تمريض على أعلى مستوى»، وكان من أهم أفكاره «التخصص»، كان يقول إن اليابان فطنت فى الصناعة إلى أهمية «تخصص التخصص»، فما بالك بالطب الذى يتعامل مع أعراض مرض الإنسان.
وفى جلسة عائلية كان شفيق يتكلم عن تخصصه فى عالم المسالك البولية كان يحذر من «الفتاوى الطبية» دون استشارة طبيب ويقول إن الإمساك مرض شائع فى مصر ولا يوجد بيت لا يشكو منه، ويقول إن البعض يلجأون إلى «الملينات» بالهبل وهى تنطوى عن مصائب كبرى بسبب الجهل والاستماع لأطباء الأعشاب، كما يطلقون على أنفسهم ويتناقل الناس أساليب القضاء على الإمساك دون كشف على القولون، ولمعلوماتكم أن علم المسالك البولية حديث، فأول جمعية للقولون تكونت فى البرازيل عام ١٩٠١ والإمساك فى أبسط كلمات هو «تخزين الفضلات داخل القولون التى يتحتم طردها لأنها سموم»، وقال شفيق لنا «إن له أبحاثاً عالمية حول (ديناميكية التبرز) وتدور حول ردة الفعل فى طرد الفضلات»، ولم أكن أعرف أن طول القولون داخل الحوض هو متر ونصف وحركته دودية، ولم أكن أعرف أن آخر ١٥ سنتيمتراً فى القولون تسمى المحبس الأساسى، وأن ٨٠٪ من مشاكل المصرى مع الإمساك هى «البوابة» بل وينصح شفيق ألا نذهب للحمام دون تنبيه من المخ بأن «موعد طرد الفضلات» قد حان.
-٤-
لم يكن جراح المسالك البولية الشهير أحمد شفيق باحثاً عن مناصب، كان ضد المناصب على طول الخط ويعتبر مهنة الجراح أرقى المناصب، عرضوا عليه منصب «وزير صحة مصر»، يوماً ما ورفض العرض رغم قربه من مواقع القرار يومئذ وقال «أنا طبيب وجراح لا نهَّاز فرص»، كان يردد «أنا جراح أعيش وأموت جراحاً»، وكان يقول لى فى أحاديثه الجانبية إن أخطر مرحلة فى حياة المريض العناية الكاملة بعد نجاح العملية، فإذا ما تسلل الإهمال واستهان التمريض بالحالة، انقلب الأمر وكانت النكسة. لقد عاش أحمد شفيق نفسه هذه الانتكاسة وثبت أن إهمالاً جسيماً لاحقه وهو راقد على سرير فى فرنسا (!!!) واحدة من دول العالم المتقدمة التى تنقل إليها أحمد شفيق فور إصابته فى مصر.
-٥-
لا أحد يعلم أن أحمد شفيق كان يصحو فى الثالثة فجراً ويصنع فنجان قهوته ثم ينزل إلى بدروم الفيلا التى كانت «معمله البحثى»، كان يعكف على البحث والناس نيام، أحياناً كان يتسلل طفلاه «على وإسماعيل» يراقبان فى صمت والدهما خلف أنابيب طويلة وفئران تجارب، لقد تربيا على هذا المشهد فعشقا الطب ونفس التخصص، لم يستطيعا فى السن المبكرة استيعاب ما يريانه ثم آمنا لماذا صار أحمد شفيق نوارة بلده.
على شفيق وإسماعيل شفيق رأيتهما وهما شابان يحلمان بالغد ومن الممكن القول إنهما تربيا على طقس بيت شغوف بالعلم ومناخ بحث عن المجهول، فما البحث العلمى إلا مطاردة بين باحث وحقيقة، ومن يرى أحمد شفيق لحظة الانفراد فى معمله، يكتشف «اندماجه» الكلى إلى حد الصلاة يطارد معلومة أو حقيقة تفرُّ منه أحياناً فيتعقبها حتى يهدأ ويطلع عليه النهار، لم يكن يهم شفيق الإعلام حتى يصل لحقيقة تفيد البشرية، ولهذا كان يتصرف كراهب علم، كانت حياته الاجتماعية بين التدريس والبحث، وعندما كانت تخرج بعض أبحاثه للنور، كانت تقابل بالاهتمام من الجادين وتقابل أحياناً بالسخرية والنقد اللاذع، وكم تحمل «العالم» شفيق الهجوم عليه وكان يرد «كل صاحب صيحة أضافت للبشرية شيئاً، قوبلت بالاستهجان لأن الناس أعداء ما يجهلون»، وعقب كل هجوم كان أحمد شفيق يقول: لن تثنينى أصوات الضجيج عن المضى فى البحث مادام هناك حلم.
-٦-
عائلياً، كانت أسرة أحمد شفيق متماسكة، فالزوجة د. ألفت السباعى، طبيبة باحثة فى أمور العقم، ولها أبحاث مهمة فى نفس المجال وهى تشرف على رسائل دكتوراه فى هذا الفرع، وكانت فى حياته ظهره وظهيره، وكانت تخطفه من معمله لبعض المناسبات الاجتماعية، ولأحمد شفيق وألفت ولدان «على وإسماعيل» عشقا الطب وتخصصا فى نفس المجال ويستعينان بمراجعه وأبحاثه حتى وريقات ملاحظاته، إنها ثروة هائلة ورثها الأبناء بل ورثا أيضاً علاقات دولية ربطت بين أحمد شفيق ومراكز بحثية فى العالم، ولا أنسى عبارة للكاتب د. يوسف إدريس يوم كتب «نحن لم نعرف وجه العالم المصرى أحمد شفيق إلا من ذلك الاهتمام العالمى بأبحاثه وخطواته المؤدية لاكتشافات»، وأضاف: «من حقنا أن نفخر به». لحظة رحيل أحمد شفيق بين يدى ألفت السباعى فى بايرس بسبب إهمال، أقامت الدنيا وقررت مقاضاة المستشفى، لكن ولديها «على وإسماعيل»، ربتا على ظهرها وقالا لها «إرادة الله».
وقبل وفاة أحمد شفيق بسنوات قليلة كان حريصاً على أن يكون هناك مستشفى بحثى وعلاجى يحمل اسمه، ومن الممكن القول إن د. على شفيق وشقيقه إسماعيل أستاذى الجراحة قد ورثا هذا الصرح ومعهما والدتهما التى مازالت مع ولديها يدخلون غرفة العمليات تسبقها صلاة كما كان يفعل أحمد شفيق رب العائلة، وكم من الأطباء العظام أثنوا على هذا «التوريث السليم» الذى تجسد فى «بناء» ومعامل وأطباء وممرضات، تدخله آهات الألم وتغادره بالامتنان بعد الشفاء، أحمد شفيق الذى رحل عن عالمنا فى أول نوفمبر عام ٢٠٠٧، تصل قمة الدراما فى حياته عندما ظل يجاهر طول حياته بعدم الإهمال فى المستشفى بعد خروج المريض من غرفة العمليات، ومات من الإهمال فى مستشفى بومبيدو بباريس!!
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com