كان من الطبيعى أن يعتمد «الحسن الصباح» على الشباب وهو يؤسس فرق «الفدائية» للقيام بعمليات الاغتيال السياسى، فناهيك عن أن الشباب أكثر تقبلاً للأفكار الجديدة المثيرة من ناحية، وأشد قبولاً لفكرة «المغامرة»، فإن من يتصدى للقيام بعمليات اغتيال ينبغى أن يخضع لتدريب وتأهيل شاق لا يقوى عليه إلا الشباب، والمسألة لا تقتصر فى مثل هذه الأحوال على مجرد الإعداد البدنى، بل تنصرف أيضاً إلى التأهيل النفسى. والإعداد البدنى مسألة مفهومة، أما التأهيل النفسى فقد كان يتوجه داخل جماعة «الحشاشين» إلى تعليم «المريد» -كما كان يطلق على العضو المتدرب داخل الجماعة- الكيفية التى يستطيع أن ينسى فيها جسده تماماً، من خلال طقوس محددة، تجعل من يُعد لكى يكون «فدائياً» قادراً فى لحظة معينة على نسيان أى ألم جسدى، وكأنه يخضع لنوع من التخدير، وربما كان ذلك الأمر هو البوابة التى دخلت منها تلك الأحاديث المفرطة عن تعاطى أعضاء جماعة «الحسن الصباح» للحشيش. والترويج لفكرة أن أعضاء «جماعات السيف» لا بد أنهم يتعاطون «المخدرات» كأساس لتفسير إقدامهم على الاغتيال مسألة لم يبرأ منها كتاب قدماء ومحدثون.
فى هذا المقام نجد أن بعض الكتاب المصريين الذين وقفوا منزعجين أمام قيام جماعة الإخوان بعمليات اغتيال قبل يوليو 1952، ومحاولات اغتيال لخصومهم السياسيين بعد يوليو، قد أهدروا العديد من السياقات وهم يربطون بين فرقة «الحشاشين» وجماعة الإخوان، بصورة جعلتهم يقدمون تفسيرات شديدة العجب وهم يحللون العلاقة بين «عناقيد الدم» فى تاريخ المسلمين فى الماضى والحاضر. الكاتب الكبير «محمد التابعى» واحد من هؤلاء، فى مقال له عقب حادث المنشية 1954 كتب التابعى يقول: «قرأت لأديب معروف مقالاً جيداً عن جماعة الحشاشين وهذا هو الاسم الذى عرفت به فى التاريخ، ولكنها كانت جماعة دينية أو هكذا كانت تزعم، وكانت تتوسل بالاغتيال والقتل إلى تحقيق مآربها، وكانت تستعين بالحشيش على تهيئة أعضائها المكلفين بالقتل وجعلهم آلات صماء لا إرادة لها، ومن هنا أطلق التاريخ على الجماعة اسم الحشاشين، ومن عجب أن الذين توالوا على رئاسة أو زعامة هذه الجماعة كان كل منهم اسمه حسن، حسن الصباح، ثم الحسن بن محمد، ومن بعدهما الحسن جلال الدين، وجماعة الإخوان تستعين بالاغتيال على تحقيق مآربها السياسية، وكانت الجماعة الأولى -جماعة الحشاشين- تخدر أعصاب آلاتها بالحشيش، أما الجماعة الأخرى -الإخوان- فتخدرهم بالدين وتبشرهم بدخول الجنة بغير حساب، وأخيراً حتى تتم المقارنة ويكتمل التشابه، لقد تولى منصب المرشد العام فى جماعة الإخوان حسنان: حسن البنا، وحسن الهضيبى»!
وبعيداً عن بعض الأخطاء التاريخية التى وردت فى كلام «التابعى»، إلا أننى أجده يهدر السياق وهو يحلل الظاهرتين على ما بينهما من تشابه، ويركز على مساحات الشبه التى يمكن أن يكون منشؤها الصدفة البحتة بالأساس، مثل مقارنة أسماء قادة الحشاشين بمرشدى الإخوان، فى حين يهمل الظروف التاريخية التى ارتبطت بإطلاق وصف «الحشاشين» على جماعة حسن الصباح، وسياق الصراع على الحكم بين جماعة الإخوان وثورة يوليو 1952، وما تؤكده كتب التاريخ من أن الإخوان كانوا شركاء لتنظيم الضباط الأحرار فى القيام بالثورة، وأن أغلب المواجهات التى تمت بين الطرفين لم تتجاوز مساحات الصراع على السلطة، مع التأكيد على تبنى الضباط لفكرة الدولة الوطنية، فى مواجهة الجماعة التى كانت -ولم تزل- تتبنى مفهوم الخلافة، وتذويب الذات الوطنية فى الكل الإسلامى، وفى حين استخدم نظام الحكم بعد 1952 أدوات الدولة فى مواجهة الإخوان، بحكم سيطرته عليها، لجأت الجماعة إلى أسلوب الاغتيال السياسى، مستفيدة فى ذلك من تجربة «الحسن الصباح» فى تكوين فرق اغتيالات قليلة العدد، لكنها جيدة الإعداد، فى مواجهة سلاطين الدولة السلجوقية الذين كانوا يصارعون بـ«أدوات دولة».
نخلص مما سبق إلى أن تجربة «الصباح» كانت تجربة ملهمة لكل «جماعات السيف» التى ظهرت من بعده، ورغم تعدد عمليات الاغتيال فى تواريخ عديدة سابقة على ظهور «الحسن الصباح»، مثل اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، على يد أبولؤلؤة المجوسى «غلام المغيرة بن شعبة» -كما يصفه ابن الأثير فى كتابه «الكامل»- ولا يخلو وصف «غلام» من دلالة على أن «أبولؤلؤة» كان شاباً، عندما نفذ عملية اغتيال الخليفة الثانى، ثم كان اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان على يد مجموعة من الشباب من أمصار عدة، ثم اغتيال الخليفة الرابع على بن أبى طالب على يد عبدالرحمن بن ملجم، لكنها تقع جميعها فى سياق التآمر الذى اندفع إليه أفراد، ولم تمثل عملاً منظماً بدأ وتواصل من خلال فرق مدربة ومنظمة، تستثنى من ذلك واقعة اغتيال «عثمان» التى تمت على يد مجموعة من الثوار أو الخارجين -سمهم ما شئت- كان من أبرز أفرادها محمد بن أبى بكر الصديق.
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com