جاء رجل ليزكى شاهداً عند عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ويشهد له بالصلاح.
فسأله عمر فقال له: أوَ تعرفه؟
قال الرجل: نعم.
قال عمر: لعلك جاره الذى يرى مدخله ومخرجه؟
قال الرجل: لا.
قال: لعلك صحبته فى السفر الذى يُعرف به أخلاق الرجال؟
قال الرجل: لا.
قال: لعلك عاملته بالدرهم والدينار الذى يُعرف به ورع الرجال؟
قال الرجل: لا.
فقال عمر: لعلك رأيته فى المسجد قائماً يصلى يهز رأسه بالقرآن ويركع مرة ويسجد أخرى؟
قال الرجل: نعم.
فقال له عمر: اذهب فإنك لا تعرفه.
لله درُّ الفاروق، حيث لخَّص لنا بهذه الكلمات البسيطة حلولاً شافية لمشكلات التدين فى عصرنا الحاضر، حيث تعد أكثر مشكلات التدين فى العصر الحاضر هى إشكالية الصراع بين الجوهر الروحى والخلقى، الذى يمثل حقيقة الإسلام وجوهره، وبين القشرة الشكلية الخارجية التى تصلح أمارة وعلامة فقط على أن هذا الإنسان ينتمى إلى ذلك الدين ويمارس تلك الشعائر.
والإشكالية فى ذلك الصراع أنَّ الإسلام فى حقيقته وجوهره علاقة روحية راقية بين العبد وربه، يقدم الإنسان فيها بما أدرك واعتقد من قدرة الله المطلقة على الخلق والإيجاد والإماتة والإحياء، وما يراه فى نفسه من ضعف وفقر واحتياج إلى تلك القدرة- أسمى معانى الدينونية والعبودية والخضوع لله رب العالمين، وقد علَّمنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن الدين له ثلاث مراتب:
1- الإسلام بشعائره الظاهرة من صلاة وصيام وزكاة وحج، قبلها النطق بالشهادتين.
2- والمقام الثانى مقام الاعتقاد الجازم بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر وبالقدر؛ خيره وشره.
3- ثم يأتى المقام الأعلى، وهو مقام الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ومن خلال مقام الإحسان يرتقى الإنسان روحيّاً وخُلقيّاً فلا يحتاج إلى رادع أو رقيب من الخارج، حيث استنار الضمير والقلب بنور الله سبحانه وتعالى، وأضحت النفس لا ترى فاعلاً ولا مؤثراً فى هذا الكون إلا الله، فأصبح الإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى وكأنه واقف حقيقة بين يديه.
روى البزار فى مسنده عن أنس رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم لقى رجلاً يقال له «حارثة» فى بعض سكك المدينة فقال: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمناً حقاً. قال: «إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» قال: عزفت نفسى عن الدنيا فأظمأت نهارى وأسهرت ليلى وكأنى بعرش ربى بارزاً، وكأنى بأهل الجنة فى الجنة يتنعمون فيها، وكأنى بأهل النار فى النار يُعذَّبون. فقال النبى، صلى الله عليه وسلم: «أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه».
اقرأ معى هذه الكلمات وتصور أخى الكريم مجتمعاً غالب رجاله ونسائه وشبابه وشيوخه على هذه الشاكلة من التحلى بمقام الإحسان ومكارم الأخلاق، ثم أخبرنى عن الأمانة فيه، وعن النظافة فيه، وعن النظام فيه، وعن الدقة والإتقان فيه، وعن شوارعه ومبانيه، وعن العلم والتعليم فيه، وعن التطور والرقى فيه، وعن ظاهره وباطنه، وعن كل كبيرة وصغيرة فيه، ثم ابحث عن تعبير وافٍ عن تلكم الحالة الراقية، سترى أنها كلمة واحدة هى: الحضارة الروحية فى أسمى وأرقى معانيها، وقد طبعت المجتمع والعالم بأسره بطابع الإحسان والإتقان فى كل شىء.
عن أنس بن مالك قال: عمِّى أنس بن النضر- سُمِّيت به- لم يشهد بدراً مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكبُر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غبتُ عنه!! أما والله لئن أرانى الله مشهداً مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أُحُد من العام المقبل، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، إلى أين؟ قال: واهاً لريح الجنة!! أجدها دون أُحُد. فقاتل حتى قُتل، فوُجِدَ فى جسده بضعٌ وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قالت عمَّتِى الرُّبَيِّعُ بنت النضر: فما عَرَفت أخى إلاَّ ببنانه. ونزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [سورة الأحزاب: 23].
إنه الصدق مع الله والصدق مع النفس.
قال الشيخ عبدالقادر الجيلانى- رحمه الله: بَنَيْتُ أمرى على الصدق، وذلك أنى خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم، فأعطتنى أُمِّى أربعين ديناراً، وعاهدتنى على الصدق، ولمَّا وصلنا أرض (هَمْدَان) خرج علينا عرب، فأخذوا القافلة، فمرَّ واحد منهم، وقال: ما معك؟ قلت: أربعون ديناراً. فظنَّ أنى أهزأ به، فتركنى، فرآنى رجل آخر، فقال: ما معك؟ فأخبرته، فأخذنى إلى أميرهم، فسألنى فأخبرته، فقال: ما حملك على الصدق؟ قلت: عاهدَتْنى أُمِّى على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها، فصاح باكياً، وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أُمِّك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله!! ثم أمر بردِّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائب لله على يديك. فقال مَنْ معه: أنت كبيرنا فى قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا فى التوبة، فتابوا جميعاً ببركة الصدق وسببه.
أين نحن الآن من تلكم المعانى السامية والآداب الراقية، وقد اكتفينا فى ديننا بثوب ولحية وعذبة وعمامة وترديد آيات وأحاديث وشعارات لم نعلم عنها غير الحروف والرسوم والأشكال.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com