الزمان: 1965
المكان: مدرسة الأقباط الكبرى الثانوية بالقرب من ميدان رمسيس بالقاهرة.
نجلس فى الفصل فى انتظار مدرس التاريخ نحن طلبة الصف الأول،
ياه.. تاريخ.
حالة من الصخب والهمهمة بيننا، ما الذى سيعود علينا من دراسة التاريخ؟ حكايات قديمة ذهبت إلى حالها وانتهت وتتفنن وزارة التربية والتعليم فى تكديرنا بدراستها، ونحن نتوق إلى كليات القمة، طب، هندسة، اقتصاد، وعلوم سياسية أو حتى تجارة، مالنا ومال التاريخ؟.
قيام.. جلوس.
يسود صمت اعتدناه مع دخول المدرس الأستاذ؛ شاب فى الثلاثينات لا يكف عن الحركة يمسك فى يده عصا رفيعة لا أذكر أنه استخدمها فى عقاب أحدنا يوماً، فقط يشير بها إلى الصورة المرافقة للشرح، وهو ينتقل من العصر الفرعونى إلى عصر النهضة إلى حكايات أسرة محمد على، وفى كل حقبة تتأكد أنه قدم لتوه من ذات العصر، لم يكن مجرد درس تاريخ إنما تجسيد لوقائع، تخاله يوماً واحداً من بلاط الفرعون ثم تراه مرافقاً للفلاح المصرى، وهو يئن من بطش المماليك، ثم تتيه معه فى حفل استقبال الملكة أوجينى فى افتتاح القناة 17 نوفمبر 1869، وأنت تختلس النظر إلى عظمة الخديو إسماعيل وضيوفه، تتحول عصاه إلى فرشاة، وهو يحدثنا عن فنان عصر النهضة مايكل أنجلو، وهو ملقى على ظهره لسبع سنوات 1805/1812، يرسم سقف كنيسة سستين بمدينة روما يترجم بإبداعه تاريخ البشرية برؤية توراتية، وقصة الفداء، كما رصدها الإنجيل، كان الأستاذ ميخائيل، مدرس التاريخ، يتماهى مع اللحظة لدرجة أننى خلته يمت بصلة قرابة لكل هؤلاء، خاصة مع جسده النحيل وطوله الفارع وملامح وجهه التى تنطق بالمصرية كشبه مومياء رمسيس وأيقونات الفيوم ومحمود المليجى فلاح فيلم «الأرض» لراهب السينما وقديسها يوسف شاهين، والرائع عبدالرحمن الشرقاوى، ولم تنته السنة الدراسية إلا وقد صرنا مولعين بالتاريخ.
الأهم هو تأكيده أن درس التاريخ الأول، هو نقل خبرة الأجيال من الانكسارات قبل الانتصارات، نتجنب أسباب الأولى ونعظم مدخلات الثانية، نحترم كل دوراته سواء فى تاريخنا أو تاريخ العالم، نتأكد أننا حلقة من حلقاته، وسنكون يوماً محل تقييم الأجيال المقبلة، بعد أن تتحرر لحظتهم من سطوة شخوصنا.
بعد سنوات أدركت أن واحداً من أسباب دوراننا فى حلقة مفرغة من الفشل فى إدارة أزماتنا على المستوى الشخصى، أو المستوى العام عبر الأنظمة المتوالية على امتداد ستة عقود، حتى انفجرت ثورة يناير واختطفت، وثورة يونيو، أننا كنا نحسب أن التاريخ يبدأ مع لحظتنا أو مع قدوم كل نظام، بلا جذور أو امتداد لما سبقه، فلا خبرة تتراكم ولا عبرة تحمينا من تكرار الأخطاء، والسؤال متى ندرك حاجتنا لقراءة تاريخنا بغير انتقائية وبغير لى ذراع أحداثه لتخدم رؤية الحاكم فى المطلق؟
التاريخ واحد من العلوم الإنسانية، التى تنمّى القدرة على ربط الأحداث واستيعاب أن الحروب محصلتها النهائية خراب ودمار، بنسب متفاوتة بين المهزوم والمنتصر، وأن الأمم لا تنهض إلا بالعمل الجاد والقبول المشترك، وعندما تدرك أن التعدد والتنوع قيمة مضافة ولازمة للنهضة الحقيقية، وأنه عبر الزمن لم تستطع جماعة مهما كانت أن تهزم وطناً، حتى لو امتدت لقرون فى عنفوانها، الهكسوس نموذجاً، فرغم سيطرتهم على الحكم طويلاً خرج لهم من صفوف الشعب أحمس، الذى أعاد تجميع كلمة الوطن ودحرهم بإرادة المصريين، وأعاد لمصر أمجادها، واحتفظت جداريات المعابد بانتصاراته، بشموخه وقوته، وهو يسوق رعاع الهكسوس فى مذلة لا تخطئها عين. ذهبوا وبقيت مصر.
ما زلت مديناً بالكثير لمدرس التاريخ، الذى خلته حيناً «الخديوى ميخائيل».
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com