بقلم : عزيز الحاج
نشر السيد مؤيد الآلوسي في موقع [الناس] ذكرياته وانطباعاته عن المجموعات الثورية في أهوار الجنوب لعام 1968، وعلاقة بعضها لحركة القيادة المركزية. وقد تفضل الكاتب وسألني شخصيا عن بعض الأسماء.
أعرف أن كل ما يتعلق بحركة القيادة المركزية قد يثير حساسيات البعض، وهو ليس لصالح الحركة الوطنية، والحركة اليسارية خاصة. ولكن الطرح الهادئ للماضي للاستعبار والدرس مفيد. ومن هذا المنطلق أود التعقيب على المقال.
الحقيقة أن كل ما أعرفه عن الأسماء المساهمة قد أوردته في آخر كتبي [شهادة للتاريخ]، الصادر في لندن عام 2002، وموجود في بعض مكتباتها. فهناك فصل خاص عن حدث الغموكة،[ أيار وحزيران 1968]، مع رسالة طويلة من السويد لأحد المشاركين في نشاطات الأهوار بتوقيع [ خ ]. ولست أدري إن كان صاحب الرسالة لا يزال في السويد ليوضح أكثر مما في الرسالة. ومعروف أن التنظيمات القاعدية كانت ترشح الأسماء، وكانت سرية طبعا، ولم أكن أعرف شخصيا، في حينه، من مناضلي الغموكة غير الشهيد خالد أحمد زكي، الذي سبق وزارني ببراغ في منتصف الستينات. كما لم أكن أعرف أية أسماء صريحة لمن ذهبوا للأهوار بعدئذ. ولكن عرفت بعضهم فيما بعد، وقد أشرت لهم في نفس الكتاب.
وقبل أسابيع من اعتقالي، كنت قد تركت جميع مسئولياتي الميدانية بانتظار تدبير سفري سرا لكردستان، ولكن الأحداث تتابعت، فحدث ما حدث.
هذا على صعيد المعلومة. أما عن النواحي الفكرية والسياسية، فأعيد من جديد التأكيد على التالي:
1 – بعد ردود الفعل الداخلية على تبني خط آب لعام 1964، انتقل الحزب الشيوعي العراقي لتبني خط الكفاح المسلح. وكانت الآراء في القيادة متشعبة حول ماهية الأشكال الأكثر مناسبة وواقعية. فهناك من كانوا يرون الحل في عملية عسكرية، مدعومة شعبيا، على طراز 14 تموز. ومن المفارقات أن الفقيد عامر عبد الله كان من مناصري هذا الخط. وأذكر اجتماعا، في 1967، مع سكرتير الحزب عهد ذاك، الأخ المناضل عزيز محمد، مع المرحوم عامر وآرا خاجادور، وفيه كان الاثنان يؤكدان إمكان قيام التنظيمات العسكرية للحزب بحركة تغيير عسكرية في تلك الفترة بالذات!.
وبالمقابل، كان هناك من يرون خيار الانتفاضة الشعبية العامة. وثمة من يقرنون مجموع تلك الأساليب. ومعذرة عن قصور الذاكرة. والغريب أننا، وكان ذلك قبل الانقسام، كنا زمن عبد الرحمن عارف، الذي لم يكن حاكما دمويا أو عنصريا وطائفيا، وفي زمنه كانت هناك حريات لا بأس بها، ولاسيما حرية التعبير في الصحف والمجلات. وبدلا من تثمين تلك الانفراجات، ظللنا ندعو لإسقاط الحكم، ومصرين على طريق "الكفاح المسلح". وأضيف أنه كان للحزب تنظيم مسلح خاص في المدن والريف باسم تنظيم "حسين"، والغرض القيام بعمليات هنا وهناك عند الضرورة.
2 – سابقا، ولحد اليوم، هناك من يصفون خط الكفاح المسلح للقيادة المركزية بالغيفارية. وقد أوضحنا في حينه، وفي نشراتنا السرية، أن ما يجمعنا بغيفارا تمجيد بطولته، وأطروحته عن أن تنفيذ العمليات المسلحة لا يجب أن يشترط نضوج كل الشروط الذاتية والموضوعية على نطاق البلاد. فحيثما أمكن، وضمنا النجاح، يجب تنفيذ هذه العملية أو تلك.
وفي الوقت نفسه، كنا على اختلافات كبرى مع الغيفارية. فغيفارا كان يريد بناء الحزب الثوري من خلال العمليات الثورية المتراكمة، في حين كنا نرى وجود الحزب مسبقا هو الشرط الأول للكفاح المسلح. كما أن تنظيم القيادة كان يمارس مختلف أشكال الكفاح، السلمي وغير السلمي، وكانت له نشاطات بين الطلبة والعمال والفلاحين، وعلاقات وطنية سياسية. أما الحركات في الأهوار، فكانت مجرد جزء من الإستراتيجية المعتمدة. والشهيد غيفارا ذهب لبلد غريب، بلا حزب يدعمه، ولا جماهير تؤازره. وكان يطمح لتحقيق ثورة شاملة عبر عمليات الأنصار المتدرجة وبعدد قليل للغاية، كأنما تجربة كوبا يمكن استنساخها. ولكن كاسترو كان يناضل في بلاده وليس في بلاد غريبة، ومع الزمن تلقى دعم الحزب الشيوعي. ويبقى غيفارا من رموز البطولة المرموقين في سبيل العدالة وخير الإنسانية.
وعدا هذا وذاك، فقد نسبت للقيادة المركزية عمليات لم تقم بها أصلا، كالاستيلاء على مبالغ مال حكومية في البصرة، وتفجير في بغداد ومحاولات قتل بعثيين في بغداد والكوت. وقد اتضح أن هناك قواعد ومؤيدين كانوا يتصرفون وفق اجتهاداتهم وفهمهم لمسألة الكفاح المسلح، وبعض ما جرى تنفيذه كان إحراجا للقيادة. وبلغت الإشاعات والحكايات المغرضة والمضحكة لحد ترويج وجود خطة لاغتيال بعض قادة الحزب الشيوعي اللبناني؟!!!!!
لقد أوضحت في كتابي أن توقيت تنفيذ حركة الغموكة، التي استشهد فيها المناضلون الأماجد خالد أحمد زكي ومنتصر سوادي ومحسن حواس، لم يكن بأمر مركزي، بل بمبادرة من القاعدة الصغيرة في الغموكة [12 مناضلا] بينما كنا نعمل على توفير المال وقطع السلاح واختيار عناصر أخرى لرفد القاعدة. وخلافا لما قيل، فالقيادة كانت في أسوأ وضع مالي، حيث كان اعتمادها على التبرعات البسيطة لا غير، حتى كانت عملية استيلاء مناضلين في السليمانية على مبلغ حكومي لا بأس به.
وهنا فقط انفجرت الحركة في الغموكة، وتبين أن المناضلين سئموا الانتظار، وتوهموا أن القيادة تركتهم وشانهم وتتعمد عدم تزويدهم بالمال. وقد نجحت الحركة الصغيرة في تحقيق هدفها الميداني الصغير، ولكن المناضلين تاهوا في طريق العودة، مما أدى في النهاية للمأساة المحزنة باستشهاد ثلاثة واعتقال أربعة وهروب آخرين. وكنا قد عينا حسين ياسين، المرشح في لجنة القيادة، ومن أهل المنطقة، كمشرف سياسي على القاعدة، ولكنه لم يلتحق بالمناضلين بعد تنفيذ العملية رغم أنه رأى الشرطة قادمة. وكان عليه الالتحاق وإرشادهم للطريق، ولكنه فضل المجيء لبغداد وإعلامنا بخبر "النصر"- وذلك قبل أن نعلم تفاصيل ما وقع بعدئذ.
في مقال السيد الآلوسي والتعقيبات عليه معلومات جديدة عليّ، والكاتب محق في تأكيده على أن جميع من رحلوا مناضلين في الاهوار هم شهداء، ويجب تمجيدهم بهذه الصفة. فالشيوعيون عهد ذاك كانوا ينتمون لعدة تنظيمات، ولكن تجمعهم الحركة الشيوعية. فهم شهداء الحركة الشيوعية، وهم بالتالي شهداء الوطن كله.
وبقي التأكيد مجددا على أن قضايا الماضي يجب أن تثار للاستعبار، وبما لا يثير أية حساسيات. وهذا ما فعله السيد الآلوسي. كما أعيد التأكيد على خطأ شعارات وإستراتيجيات الكفاح المسلح، وأياً كانت الأشكال والأنماط المعتمدة. فثورة 14 تموز كانت فريدة، وفي ظروف خاصة جدا. ولو أمكن تغيير النظام الملكي سلميا، وعلى مراحل، لكان ذلك أفضل، وأقل نتائج سلبية. ولكن السنوات الأخيرة لذلك النظام أغلقت كل سبل العمل التغييري السلمي. أما زمن عبد الرحمن عارف، فالوضع كان مختلفا، وخصوصا بعد اتفاق البزاز مع الطرف الكردستاني على هدنة.
كان فشل حركة الغموكة، ذات الهدف المحدود، متوقعا لأسباب فنية ولعدم وجود دعم فلاحي حقيق للقاعدة. ومع ذلك، فإن تلك الحركة الصغيرة كانت صفحة مجيدة من النضال الثوري العراقي. وكذلك جميع التحركات الثورية في الأهوار بعد الحدث.
ومن المستحسن هنا أن أعيد نشر فقرة من كتابي عن مستقبل الحركة الشيوعية في العراق، فأقول:
"إن للشيوعية في أرضنا وتاريخنا الحديث جذورا وأمجادا وأفضالا لا يمكن لكائن من كان إلغاؤها أو طمسها. غير أنه ، لو أريد للحركة الشيوعية أن تلعب دورا مهما في الحياة السياسية والمجتمع، فإن من أول المتطلبات هو تجديد للفكر والتقاليد والعلاقات، وتجديد التوجهات، كالبحث مثلا عن إمكان قيام حركة يسارية واسعة وبتعددية في الاتجاهات" [ص 588 ]- وهذه مجرد فكرة. فالمهم هو التفكير في الإستراتيجيات والتكتيكات البديلة، رغم أن المهمات صارت، بعد صدور الكتاب عام 2002، أكثر صعوبة وتعقيدا بسبب غلبة الولاءات الثانوية وانحسار الشعور بالمواطنة، والمحاولات الجديدة- بعد محاولات صدام وجرائمه- لتهميش القوى اليسارية والديمقراطية ذات التوجه العلماني.
أهتف أخيرا: مجدا لشهداء الأهوار، ولجميع شهداء الحركة الشيوعية والوطن في العراق.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com