تعرضت المنطقة العربية خصوصاً في المشرق لصدماتٍ متتالية ومنعطفاتٍ صعبة وواجهت كل ذلك بصبرٍ وبسالة وإن تأثرت الحياة واضطربت الحركة. إننا أمام مشهدٍ مأسوي يجتاح المنطقة العربية. أقول ذلك ونحن نرى عمليات الذبح الجماعية والحرق الفردي والعدوان على الإنسانية والحضارة في القرن الحادي والعشرين. إنني لا أتصور أننا عرفنا من قبل الدرجة التي شهدناها من الوحشية والعنف الإجرامي لمن فقدوا الإحساس بكل ما في الحياة، ولقد تعرَّض المسيحيون العرب لنصيبٍ وافر من بلاء هذه المرحلة فهم المطرودون من ديارهم، المهجرون قسراً من العراق، المهاجرون من لبنان، المذبوحون في ليبيا على شاطئ المتوسط في موقعة دامية لن تبرح خيال المصريين أبداً. إن المسيحيين يدفعون مع أشقائهم المسلمين ضريبة التواجد في هذه المنطقة من العالم التي تكالبت عليها الكوارث وتراكمت فوق أرضها المآسي على نحوٍ غير مسبوق. إن المسيحيين العرب رغم شراكتهم التاريخية الرائعة في الحضارة العربية الإسلامية ودورهم المشهود في الحفاظ على اللغة العربية بل والثقافة الإسلامية أيضاً، رغم كل ذلك يجري التضييق عليهم ومطاردتهم وقتل من يقع منهم في أيدي تلك الفئة الضالة رغم التعايش المشترك والتاريخ الطويل والإسهام الواضح لهم في القضايا الإنسانية والنشاطات الاجتماعية ودعم مسيرة التقدم في كل قطرٍ عاشوا فيه. رغم ذلك كله فإن الموجة الإرهابية العاتية تستهدفهم قبل غيرهم وتصب عليهم ألوان الاضطهاد والقهر في انتقاءٍ مقيت ثم يسوقونهم إلى ساحات الإعدام! والغريب أن ذلك يحدث تحت راياتٍ زائفة وشعاراتٍ كاذبة تستخدم الدين الإسلامي على غير ما جاء به أو دعا إليه. دعونا نغوص في أعماق المشكلة ونفكَّر في أساليب الخروج منها وذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: لا يخالجني شك في أن 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كان تاريخاً فاصلاً في حياة البشرية كلها لأن الذين استهدفوا برجي التجارة في نيويورك إنما كانوا يدقون المسمار الأكبر في نعش الاستقرار والتعايش المشترك في هذه المنطقة من العالم، وإذا افترضنا أن ما جرى في العراق هو جزء من الفوضى الناجمة عن ظروفه الخاصة في ظل حكم صدام حسين وبعده، إلا أننا لا نرى مبرراً لاستهداف الديانات والتحريض ضدها، فقد انطلقت الجماعات الإرهابية تفرض على المسيحيين والأيزيديين وغيرهم من العقائد أن يتركوا بلادهم وأن يرحلوا إلى المجهول. إن مثل هذه التصرفات تعني ببساطة أننا لا نريد أن نعيش مع الآخر ونرفض الغير وهذا أمر ترفضه كل الشرائع السماوية والأرضية أيضاً، وتبقى مشكلة المسيحيين في العراق جزءاً من المحنة الكبرى التي يعيشها العراقيون عموماً والمسيحيون خصوصاً.
ثانياً: عاشت سورية في ظل حكمٍ فردي ولكنه كان يتبنى قدراً لا بأس به من العلمانية، فعاشت الأقليات العددية - خصوصاً الدينية منها - في نوعٍ من الاستقرار طوال حكم أسرة الأسد، ولكن الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 جاءت معها بجماعات إرهابية اندسّت في صفوف الثوار ودخلت بالأزمة السورية إلى منعطفٍ معقد يصعب الخروج منه، ولعل تنظيم «داعش» وتوابعه هو نموذج لذلك، فقد بدأ التعامل بين القوى المتناحرة وفقاً للاختلافات الدينية والطائفية وليس الاختلافات الفكرية أو السياسية، وامتد سرطان «داعش» ما بين سورية والعراق فوصل إلى أقطارٍ عربية أخرى منها ليبيا واليمن وربما مصر والأردن أيضاً، فالخطر يستهدف الجميع ولا نجاة لأحد مما يجري على أرض الواقع في هذه الفترة الصعبة من تاريخ المنطقة بكل دياناتها وطوائفها.
ثالثاً: ليس من شكٍ في أن الأقباط هم من أقدم مسيحيي الوطن العربي وهم مصريون خالصون، قبلوا العروبة ثقافة بعد قرنين كاملين من الفتح الإسلامي لمصر، فعندما زادت ضغوط الفاطميين لتحصيل الجزية وظهرت الاضطرابات السياسية المبكرة عندئذِ اعتنق معظم المصريين الدين الجديد الذي جاء به الفتح العربي، وقد أخلص الأقباط لمصريتهم وعروبتهم وتعايشوا دائماً مع الغالبية المسلمة ولا أزعم أن العلاقات بينهم وبين غيرهم كانت دائماً سخاءً رخاءً آمنة أو مزدهرة، بل إنني أزعم أنهم عرفوا فتراتٍ من الضغط فلديهم «عصر الشهداء» عند اضطهاد الرومان لهم، كما عرفوا آثار الفتن الطائفية في مراحل مختلفة من مسيرة تاريخهم الطويل، ولقد خرجت من تلك الطائفة العربية المصرية المسيحية شخصيات دولية معروفة مثل بطرس بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة الأسبق ومجدي يعقوب أستاذ جراحة القلب الدولي وعازف البيانو العالمي رمزي يسي وغيرهم من النجوم اللامعة في مصر وخارجها، وقد ظلت الكنيسة القبطية المصرية محافظة على شخصيتها معتزّة بتراثها وظهر من بين آبائها باباوات عظام منهم من استقبل المطبعة الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر بالتراتيل الدينية على أنغام موسيقية، كما كان إسهامهم في حركة التعليم المصري مشهوداً حيث فتحت مدارس الأقباط أبوابها على مصراعيها للمسيحيين والمسلمين بلا تفرقة، حتى أن رئيس الوزراء في العصر الملكي عبد الخالق ثروت باشا ورئيس الدولة في العصر الجمهوري أنور السادات كان كلاهما من خريجي مدارس الأقباط، كما أن الكنيسة القبطية هي أول من افتتح مدرسة مصرية لتعليم البنات حيث لم يفرق الأقباط قط في المعاملة التعليمية بين مسلم ومسيحي، وكان لهم بابا مرموق في العصر الحديث هو البابا شنودة الثالث الذي كان منحازاً للقضية الفلسطينية مدافعاً عن أصحاب الأرض المحتلة والحقوق الضائعة، وهو الذي منع الأقباط من زيارة كنيسة القيامة في ظل الاحتلال الإسرائيلي حتى اكتسب اللقب الشهير «بطريرك العرب»، فأقلية عددية كهذه لا نجد أبداً مبرراً لعدائها أو العدوان عليها.
رابعاً: إن الكثير من أبناء الشرق الأوسط بدأوا يشعرون بالقلق الحقيقي بسبب موجة الإرهاب التي تجتاح المنطقة وتقتل على الهوية وتذبح من دون سبب! فقد اختلط الحابل بالنابل ولم يعد واضحاً أمامنا ما هي الجهات التي تقف وراء هذه الموجة الجديدة من الإرهاب؟ وهل صحيح أن هناك اتفاقاً ضمنياً بأن يبتعد الإرهاب عن أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي عموماً ويركز نشاطه في العالمين العربي والإسلامي؟! فإذا كان الأمر كذلك فإن معناه أن هناك مؤامرة كبرى تستهدفنا من كل اتجاه، وأنه قد جرى تصدير هذه التنظيمات إلينا حتى يكون هناك استهلاك حقيقي للطاقة العربية واستنزاف للموارد الطبيعية والبشرية، ولا بأس من إعادة المنطقة كلها إلى الوراء لقرنين كاملين لتبقى إسرائيل وحدها واحة الاستقرار والتقدم يحيط بها عالم يسبح في الهمجية والتخلف.
خامساً: يخرج المصريون من الدلتا والوادي الضيق للعمل في بعض الأقطار العربية النفطية فيذهب معظمهم الى دول الخليج ويبقى جزءٌ يتجه إلى ليبيا خصوصاً في إقليمها الشرقي ليكسبوا لقمة عيشهم وينفقوا على أسرهم الفقيرة، ومن غير العدل الإلهي ولا الحس الإنساني أن يدفع أولئك الفقراء والمسحوقون خطايا السياسة وألاعيب رجالها. ولنتأمل الأسر القبطية في صعيد مصر وهم يبكون أبناءهم شهداء لقمة العيش ورغيف الخبز وكأنما فرض عليهم أن يعانوا في الحياة وفي الممات أيضاً وأن تأتيهم نهاية مأساوية تختلط فيها دماؤهم الزكية بأمواج البحر المتوسط «بحيرة الحضارات» التي أطلت عليه عبر التاريخ من جنوبه وشرقه وشماله، ولكن أبت يد الإرهاب الآثمة إلا أن تلوّث مياهه التاريخية بدماء من لا حول لهم ولا قوة، والولايات المتحدة الأميركية تراقب الأمر بدمٍ بارد لأنه لا يعنيها أبناء شعبٍ أجهضت قيادته مخططاً آثماً لاستخدام تيار الإسلام السياسي في خدمة أهدافه وأغراضه مع مشروع دولي تكون قاعدته مصر وقيادته تركيا ويأتيه التمويل عربياً وإسلامياً ودولياً وليذهب الجميع بعد ذلك إلى الجحيم، فالمطلوب هو عودة المنطقة إلى العصور الوسطى لتبقى الدولة العبرية هي واحة الأمن والأمان بحيث تفرض كلمتها على الجميع من دون منازع! ولعلنا نلحظ أن إسرائيل تراقب عن كثب ما يحدث لمصر التي تريد أن يستنزفها ضرب الإرهاب في سيناء وتستهلك جهدها مقاومته في ليبيا ولا مانع من فتح جبهات أخرى لأكبر دولة عربية في المنطقة. إنه مخطط شرير لم يعد خافياً على أحد.
إن مشهد ذبح الأقباط المصريين سوف يبقى في الذاكرة الإنسانية جرحاً لا يندمل، ووخزاً لضمير البشرية في القرن الحادي والعشرين، ونموذجاً أليماً لمعاناة المسيحيين العرب في العقود الأخيرة والذي يمثل الأقباط نموذجاً له بامتياز!
نقلا عن الحياة
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com