أريد قبل كل شيء أن أذكر بحقيقة يجب أن تكون حاضرة وأن تكون مفهومة. وهى أننى حين أتحدث عما حدث لشبابنا على أيدى المجرمين الأنذال فى ليبيا لا أتحدث عن مواطنين لا أعرفهم،
أو ضحايا أتعاطف معهم، بل أتحدث عن مصاب شخصى يذكرنى بما أعانيه الآن وما عانيته خلال تاريخى كله.الشهداء المصريون الذين سقطوا على أيدى الارهابيين الذين توحشوا فى ليبيا هم أحفاد الشهداء المصريين الذين سقطوا على أيدى الرومان فى القرون الميلادية الأولي. وهم أحفاد الشهداء المصريين الذين سقطوا على أيدى الخليفة المأمون وزبانيته فى القرن الثالث الهجرى وعلى أيدى المماليك فى القرن الرابع عشر. وبهذه الروح، روح الشهادة، واجه الشبان المصريون الموت فى ليبيا. لقد كانوا شجعان ونبلاء ومستهينين بالموت ومترفعين الى حد القداسة.
أنا مصرى أى قبطى لأن مصر بهذا الاسم السامى هى «هاكابتاح» باسمها الفرعونى أى بيت الإله بتاح وقد أصبحت هاكابتاح بالنطق الاغريقى إيجيبت. وأصبحت إيجيبت فى النطق العربى قبط. إذن مصرى يعنى قبطي. وأنا مسلم لكن اجدادى مسحيون اعتنقوا الاسلام ، وبما انى مسلم، فالمسيح نبى من أنبيائي. والمسيحية لى تراث دينى وتراث وطني.
وكذلك أقول عن المسيحيين المصريين. هم أقباط أى مصريون. وهم مصريون فالثقافة العربية الاسلامية هى ثقافتهم الوطنية. وأريد بعد ذلك أن أقول إننى لست مفاجأ. فالذى حدث للمسيحيين المصريين يحدث لإخوتهم المسلمين على أيدى الارهابيين فى مصر. ويحدث للمسيحيين واليزيديين فى العراق. ويحدث للأكراد فى سوريا. ويحدث للمسلمين والمسيحيين فى نيجيريا، ويحدث للفرنسيين فى باريس. ونحن نستهول هذا الذى حدث ويحدث لأننا نعيش فى عصر يعترف لكل انسان بحقه الطبيعى فى اختيار عقيدته وممارسة شعائره الدينية، بعيدا عن أى ضغط أو إكراه. فليس لأى سلطة فى العالم ولا لأى قوة مهما بلغت أن تفرض عقيدة أو تميز دينا على دين. لأن وظيفة السلطة هى على العكس من ذلك أن تضمن للإنسان المواطن حقه فى الحياة والأمن والحرية. ولأن الإيمان يتحقق بالفرد وحده فهو ليس سلطة يشترط فيها الحصول على أغلبية الأصوات، وإنما هو اطمئنان بالقلب لعقيدة من العقائد لايتأثر بعدد المنتمين لها، لأنه
لا يؤثر أو لا يصح أن يؤثر فى التوجهات السياسية التى ترسمها الأغلبية أى ترسمها المصالح المشتركة.
وأنا أتأثر دون شك سلبا وإيجابا بحصول هذا الحزب أو ذاك على أغلبية الأصوات فى الانتخابات النيابية. وقد أفكر فى إعطاء صوتى فى الانتخابات التالية للاشتراكيين المعارضين بعد أن أعطيته فى الانتخابات الماضية لغيرهم. لكنى لا أراجع عقيدتى الدينية بناء على عدد المنتمين لها، سواء كانوا قليلين أو كثيرين. وأنا أذهب إلى فرنسا أو إلى الصين فأتأثر بما حققه هؤلاء وهؤلاء فى العلم أو الفن أو السياسة أو الصناعة. لكنى أظل مطمئنا لعقيدتى الدينية ولو كنت واحدا وكانوا مئات الملايين.
هذا التمييز بين الدين والسياسة لا يكون إلا فى مجتمع راق عرف كيف يميز بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، أى بين ما يجب أن نتفق عليه وما نستطيع أن نختلف حوله، وعرف كيف يميز بين مطلب للإنسان الفرد ومطلب آخر من مطالبه. فأنا أحب أن أكون من أهل الجنة. لكنى لا أطالب الحكومة بأن تضمن لى مكانا فيها، وإنما أطالبها بأن تضمن لى مكانى فى هذا العالم الذى نعيش فيه.
قبل ثورة يناير كنا نطالب بانتخابات نزيهة وحكومة صالحة تحارب الفساد وتحاكم المفسدين وتساعدنا على الخروج من الطغيان ومن الأحياء العشوائية، وتمكننا من التغلب على الأمية والبطالة وفيروس سى فوجدها «الإخوان» فرصة سانحة يرفعون فيها فوق رؤوس الجوعى والمرضى والأميين شعارهم الخادع «الإسلام هو الحل».
ولم يكن الإسلام فى هذا الشعار الا المرادف لضمير المتكلمين «نحن». وقد خدع الفقراء والأميون بهذا الشعار خاصة بعد أن وزع الإخوان معه بعض الرشاوى العينية فأعطوهم أصواتهم التى مكنتهم من الجلوس فى مجلس الشعب جنبا إلى جنب أعضاء الحزب الحاكم، وبهذا تحقق الحل الموعود. لأن الإخوان معتدلون كما وصفهم أوباما، ووسطيون يرضون بمكان بين بين. ولهذا قبلوا أن يقتسموا السلطة مع نظام مبارك الذى لاتقل حاجته للدين عن حاجة الإخوان للدولة. الإخوان يريدون الدولة ليمارسوا طغيانهم ممارسة عملية. ومبارك يريد الدين ليبرر طغيانه ويجد له سندا دينيا. وبهذا الحل السعيد لم يعد مبارك طاغية، بل أصبح ديمقراطيا يقتسم السلطة مع غيره، ولم يعد الإخوان مضطهدين بل أصبحوا نوابا فى البرلمان ونقباء ورجال أعمال. أما نحن فقد ظللنا جوعى مرضى أميين متخلفين، لأننا ظللنا نخلط بين الدين والسياسية، وبين كفتة الحاتى وكفتة عبدالعاطي. ولهذا نتخلف ونزداد كل يوم تخلفا، والآخرون يتقدمون. والذين كانوا أكثر تخلفا منا سبقونا. لأنهم ميزوا بين السياسة والدين. الدين نشاط خاص وعلاقة بين الإنسان وربه لايطلع عليها أحد. أما السياسة فنشاط عام لايكون نافعا مثمرا إلا فى نظام ينهض على أكتاف الجماعة، وهو النظام الديمقراطى الذى تصدر فيه كل السلطات عن الأمة. فالأمة تشرع لنفسها وتضع لنفسها القوانين التى تحقق لها مطالبها. والأمة تحتكم لنفسها أى للقوانين التى تضعها. والأمة تحكم نفسها بنفسها.
هذا النظام الديمقراطى الذى يبدأ بالفصل بين الدين والدولة لم نعرفه فى بلادنا إلا فى لحظات خاطفة. لأن حكامنا طوال تاريخنا لم يكونوا مجرد حكام، وإنما كانوا آلهة أو أنصاف آلهة تعلو مشيئتهم ليس فقط على مشيئة الأمة بل على مشيئة الأقدار ذاتها. ولكى يفرضوا مشيئتهم هذه ويمارسوا طغيانهم واستبدادهم ممارسة شرعية حرصوا دائما على خلط الدين بالسياسة، حتى لا يسألوا عما يفعلون. فمادام الله خالق كل شئ ومصدر كل فعل، ومادام الخليفة هو ظل الله على الأرض فليس لنا أن نسأل الظل، وليس على الظل أن يجيب !
ولقد كنا نظن وقد بدأنا نهضتنا الحديثة منذ قرنين وثرنا فى طلب الدستور والديمقراطية مع عرابى ومع سعد زغلول، وأسقطنا النظام الملكي، ثم أسقطنا نظام يوليو العسكري، ثم أسقطنا حكم المرشد ـ كنا نظن أننا أدركنا الفرق بين النشاط الدينى والنشاط السياسى وفصلنا الدين عن الدولة، لكننا نرى نرى ان ماتقوله داعش يقوله السلفيون عندنا ويردده خطباء الزواية وتتبناه المعاهد الازهرية ونحن نري ان الدستور لايزال ينص علي ان الاسلام دين الدولة وان الشريعة هى المصدر الرئيسى للقوانين ، من الطبيعى ان يحدث لنا ماحدث.
أريد فى النهاية أن أقول إن ما حدث لنا فى ليبيا هو الثمرة المرة لما زرعناه ولما نزرعه فى مصر. فالطغيان الذى رزحنا تحته آلاف السنين يخلط بين الدين والسياسة، ويفرق بين المسلمين والمسيحيين. والطغيان يحبسنا فى ظلمات العصور الوسطى نعانى فيها الجوع والمرض والأمية ونضطر للبحث عن اللقمة خارج بلادنا فنلاقى ما لقيناه !
نقلا عن الأهرام
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com