تفسير قديم شائع لكل من يعمل بالتفكير، أو ينشغل بالفكر والأفكار، وهو أنه يعاني بشدة وأن هذه المعاناة لا بد أن تسلمه حقا للمرض. ولذلك يقولون في ريف مصر عن أي شخص يعجزون عن تشخيص مرضه، أنه مصاب بالفكر. أو عنده فكر. ويجدون سندا لذلك في الحدوتة الشعبية الشهيرة عن الهدهد وسيدنا سليمان.
حدث أن سيدنا سليمان غضب غضبا شديدا على الهدهد لسبب لم تهتم الحدوتة بذكره، فاستدعاه وقال له بحدة: لقد عفوت عنك مرارا على الرغم من أخطائك الكثيرة، واستهانتك بأوامري وتعليماتي، لذلك سيكون عقابي لك مختلفا عن كل مرة.. ستتعلم هذه المرة معنى العقاب الحقيقي.. سأحرمك من النوم.. ستعجز عن الطيران، ستعجز عن المشي، سأرسل لك بالشيء الوحيد الذي تعجز عن مواجهته والذي يدفعك إلى الموت ببطء.. سأرسل لك بالفكر.. اتفضل.. مع السلامة.
طار الهدهد مبتعدا، طار خارج المدينة، وقد أخذ «يفكر» باضطراب شديد في ذلك العقاب الذي سيلحق به، ترى.. ما هي طبيعة ذلك العقاب المسمى بـ«الفكر»؟ هل هو طائر جارح من فصيلة الصقور والنسور ينزل عليه بغتة من أجواز السماء العليا فيمزقه إربا إربا. أم هو حيوان من وحوش الغابة الغادرة القادرة على القفز عاليا واصطيادي من فوق الشجرة؟
أم هو من فصيلة الميكروبات والفيروسات سيتسلل من خلال تنفسي إلى جسمي ليدمره ببطء..؟
فزعه الناتج عن جهله بطبيعة الفكر وخطورته وبالتالي إمكانية مقاومته، أضعفته حتى سقط بالفعل مريضا، عجز عن الطيران كما كان يمشي بصعوبة.. وبدأ يتساءل في تعاسة: إذا كنت قد وصلت إلى هذه الحالة من المرض لمجرد تفكيري في هذا الفكر، فماذا سيحدث لي عندما يبدأ في مهاجمتي؟
غير أنه تماسك واستطاع الوصول إلى قصر سيدنا سليمان زحفا على الأرض. وأمامه أحنى رأسه وقال له بضعف وتعاسة: مولاي.. أرجوك.. أريد أن أدفع ثمن أخطائي.. من فضلك عاقبني.. أرسل لي بالفكر.
فرد عليه بلطف: ألم تدرك حتى الآن أنني أرسلته إليك بالفعل..؟
هذا هو التفسير الشعبي الشائع للفكر والأفكار والمفكرين، وأنا أختلف مع هذا التفسير، لم يكن الهدهد يعاني من التفكير، بل من الجهل بمعنى الكلمة ومشتقاتها، انعدام المعرفة كانت السبب الأساسي فهي انهياره. التفكير بالمعنى الفلسفي هو ذلك النشاط العقلي الذي نحقق به المزيد من الصحة والعافية وننجز به أعمالنا على نحو أفضل. والمفكر هو ذلك الشخص الذي يعرض علينا فكرة قادرة على التحول توا إلى واقع عملي يجعل حياة الناس أكثر صحة ورخاء.
عندما تفكر لا تنشغل بأن تكون أكثر ذكاء أو علما أو معرفة، فكر فقط في أن تكون أكثر خيرا. لا تنشغل بغير ذلك، وإذا كانت الغابة فيها مكان للثعالب، غير أن الدنيا لا مكان لهم فيها كما يتصور بعض السياسيين الهواة الذين شردوا شعوبهم في شعاب جبال الدنيا. الدنيا تحترم الأسود ليس لأنها أقوياء أو ملوك للغابة بل لأنها تتميز بالوقار والطيبة.
نقلا عن الشرق الاوسط
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com