في فترة من حياة نيقولو ميكيافيللي، أبعد فيها عن وظيفته الدبلوماسية، فعاد إلى بيته في الريف الإيطالي يقضي النهار في الغابة مع الصيادين أو في الحانة، وفي المساء يرتدي ملابس البلاط ويدخل مكتبته ليقرأ المؤرخ الإيطالي «بلني» الذي كتب تاريخ الإمبراطورية الرومانية الغربية.
بالطبع كان يقرأ بدافع من الرغبة في الاستمتاع في هذه العزلة المفروضة عليه، غير أن سؤالا ألح عليه: هل توجد للتاريخ قواعد ثابتة في أصول الحكم..
ينجح من يأخذ بها ويفشل من لا يتبعها؟
كانت الإجابة عن هذا السؤال هي كتابه العبقري: «الأمير».
لست أزعم أنني في عبقريته، غير أني على الأقل قادر مثله (وعلى فكرة هو ابن كار، فقد كتب عدة مسرحيات فكاهية) على التساؤل، أو بمعنى أدق، تقفز إلى ذهني أحيانا أسئلة بعيدة عن منهج التفكير العام، ومنها: هل ترث المجتمعات ملامح النظم التي تخلصوا منها فيما يسمى بعملية «الثورة»؟
معنى ذلك أن الأنظمة التي يظن الثوار أنهم تخلصوا منها، تظل تحكمهم لفترة طويلة إلى أن ينضج بداخل عقولهم ما نسميه في المسرح «لحظات الاستنارة»، بعدها يعيدون تصحيح مساراتهم، ويعملون بجد على التخلص مما وافقوا عليه بحماسة من قبل،
غير أن الحصول على حالة الاستنارة هذه تتوقف على ما ورثوه أيضا من النظام السابق. وفي عملية الوراثة، هناك ثروة من مال وعقار وسمعة طيبة أو سيئة، وهناك سلوك لصاحب الثروة يعرفه الجميع، وهناك ورثة يرثون ذلك كله.
دقق جيدا في الأنباء الكئيبة القادمة من ليبيا وقارنها بالأخبار المبهجة القادمة من تونس، إنه بالضبط الفرق بين ميراث الليبيين من معمر القذافي، وما ورثه الشعب التونسي من الحبيب بورقيبة. لا بد من الاعتراف بأنه تحدث عملية توحد (Identification) بين المواطن الفرد وبين رئيسه، وربما يتشبه به في التفكير والسلوك، وربما يكون ذلك هو سبب تلك المقولة الشائعة، وهي أن «الناس على دين ملوكهم».
ما ورثه الشعب الليبي من معمر القذافي هو الوحشية والغباء وغياب المنطق الذي نراه واضحا في سلوك الجماعات المسلحة عديمة العقل والهدف، كل فرد في هذه الجماعات يوجد بداخله معمر قذافي صغير فاقد للرغبة في الحياة، وعاجز عن التوافق معها تماما كالقذافي، إنه لأمر صعب للغاية أن نتمكن من معرفة متى يتمكن الشعب الليبي من التخلص من معمر الذي يرقد بداخلهم.
وفي تونس نرى بكل وضوح ما تركه الحبيب بورقيبة للشعب التونسي من ميراث وتراث وثروة علمانية ديمقراطية، وقدرة على تغيير المجتمع بغير عنف ومن خلال صندوق الاقتراع.
الجديد في الأمر أن الشعب التونسي اختار الحزب الذي يرأسه أحد الرجال الذين كانوا يعملون مع الحبيب بورقيبة، وهو السيد الباجي قائد السبسي، في الوقت الذي ما زال فيه الثوار في مصر يطلقون صرخاتهم محذرين من رجال النظام السابق، هم ليسوا مخلصين للثورة فقط، بل ولنظام مبارك الذي ورثوا عنه الكثير من البلادة والغباء.
أنا آسف يا صديقي.. لم تعد لدي مساحة لأحدثك عما ورثه الشعب العراقي عن السيد صدام حسين.. يا رب.. أمنح الشعب العراقي «لحظات الاستنارة» الكافية لدفعهم لتقليد الشعب التونسي.
ali.salemplaywright@yahoo.com
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com