الطريق إليها ملىء بالأمراض التى تنهش فى أجساد أطفالها قبل شبابها، ويحاصرها الإهمال من كل اتجاه، ما جعل البعض يطلق عليها «قرية السرطان» بسبب ارتفاع عدد حالات الإصابة بمرض السرطان إلى 28 حالة على مدار 3 سنوات ماضية، بينهم 9 أطفال.
قرية «مشلة»، التى تبعد نحو 25 كيلومتراً عن مدينة كفر الزيات، من أكثر مدن العالم تلوثاً، سجلت القرية خلال الشهرين الماضيين فقط 5 حالات إصابة بمرض السرطان، توفى منها حالتان فى الأسبوع الماضى.
«الوطن» توجهت للقرية لتبحث مع أبنائها عن سبب انتشار المرض، وبدأت رحلتها بـ45 دقيقة على المصرف الشرقى للقرية قضتها وسط مخلفات المجارى التى تلقيها جرارات الكسح، وسائقوها يلقون علينا التحية وهم يسيرون فى طريقهم لتفريغ السموم بالمصرف بحثاً عن الرزق، على حد قولهم.
يدور بيننا وبين عدد من أهالى القرية حوار ملامحه تؤكد أنها قرية منسية من ذاكرة المسئولين، بنظرة حادة يلتفت إلينا ياسر المسيرى، أحد أهالى القرية، والد الطفل «أحمد»، صاحب الـ7 سنوات، المصاب بالسرطان فى الدم والمحجوز بمستشفى 57357، قائلاً: «ما عندناش أى حاجة لها علاقة بالحكومة، أهالى القرية يعيشون دون مياه شرب نظيفة، أو محطة صرف صحى تنقل مخلفات المواطنين بعيداً عن القرية، أو وحدة صحية تقدم خدمة طبية على الوجه الأكمل، تخطى تعدادها السكانى 30 ألف نسمة، وأمراض البلهارسيا والفشل الكلوى والسرطان تنهش أجساد الأطفال والكبار بسبب تلوث مياه الشرب ورى الفلاحين أراضيهم الزراعية بمياه الصرف والمجارى».
وأضاف: «تقدمت ببلاغ يحمل رقم 53 أحوال مركز كفر الزيات، ضد الدكتور محمد شرشر، وكيل وزارة الصحة بالغربية، واللواء محمود زكى أسعد، رئيس مجلس إدارة شركة مياه الشرب والصرف الصحى بالغربية، واتهمتهما فيه بصفتهما بأن نجلى وعدداً كبيراً من أطفال وأهالى القرية أصابهم مرض السرطان؛ لأن مياه الشرب بالقرية غير نظيفة وغير صالحة للاستخدام الآدمى».
وأشار، فى بلاغه، إلى أن شركة مياه الشرب لم تغير مواسيرها منذ فترة كبيرة، حتى أكلها الصدأ، وأن بعض مواسير المياه المحرمة دولياً وُضعت عام 2004 ولم يتم تغييرها حتى الوقت الراهن، إلى جانب اختلاط مياه الصرف الصحى بمياه الشرب، وطالب بندب لجنة فنية من كليتى العلوم والطب بجامعة طنطا، ومعهد الأورام بطنطا، لتحليل مياه الشرب بالقرية، لإثبات التهم والاحتفاظ بالحق المدنى ضد المشكو فى حقهم، وأوضح أنه فوجئ بإصابة نجله بمرض السرطان منذ 15 يوماً، بعد أن ظهرت عليه فجأة أعراض السخونة، وبالتوجه به لطبيب القرية طلب منهم عمل تحاليل، أثبتت فيما بعد إصابة نجله بالسرطان فى الدم، ما أصابه بحالة من الارتباك كونه لم يتوقع أن يصيب نجله هذا المرض الخبيث الذى غيّر ملامح وجهه ورأسه، وأثر على حياته وتعامله مع زملائه وأصدقائه ومأكله ومشربه، وقال: «كنت أسمع عن هذا المرض لكن لم أتوقع إصابة نجلى به كونه لم يتعرض لشىء يسبب إصابته به فلم يتعرض للأشعة الضارة أو مواد كيميائية أو إصابته من قبل بأمراض معدية، بالإضافة إلى عدم وجود أحد من عائلتى أو عائلة والدته مصاب بهذا المرض فنقول: إن الإصابة جاءت لنجلى عن طريق الوراثة».
وأرجع إصابة نجله إلى تلوث مياه الشرب ووجود مخلفات صناعية بها واختلاطها بمياه الصرف الصحى، مشيراً إلى أن إصابة نجله ليست الوحيدة فى القرية وإنما يوجد نحو 28 حالة بالقرية على مدار الـ3 سنوات الماضية منها 5 حالات فى أقل من شهرين، ومن بين الـ28 حالة 9 أطفال بعضهم تم استئصال كليته وكبده، قائلاً: «أطفال وشباب قرية مشلة يجلسون على مقاعد السرطان، هذا المرض اللعين».
وخلال جولتنا داخل القرية، خرج الأهالى للتعرف على الغرباء لعل وعسى أن يكون معهم الأمل بانتهاء معاناتهم وتوفير حياة كريمة لهم، وبابتسامة بريئة تحدث «أحمد» قائلاً: «تعبت من السفر كل أسبوع إلى القاهرة، بابا قال لى فيه فرع لمستشفى 57357 فى طنطا، نفسى يفتحوه علشان أعرف أقعد مع بابا وأشوف شهد وأسماء اخواتى اللى حرمنى التعب من اللعب معهم، وماما تروح لهم البيت، عاوز أقابل السيسى علشان أقوله أطفال مصر خلّى بالك منهم واللى تعبان منهم بلاش يتبهدل علشان يتعالج، ونفسى أكون ظابط فى الجيش علشان أدافع عن مصر زى ما قال لى المدرس».
ويشير «أحمد» إلى أن مرضه منعه من الخروج للعب مع أصدقائه مثلما كان يفعل من قبل، وغيّر ملامح رأسه بسقوط شعره وعدم قدرته على تقبيل غيره من أقاربه وجيرانه تنفيذاً لأوامر طبيبه المعالج فى مستشفى 57357.
وتقول والدة «أحمد» إن علاج نجلها فى مستشفى السرطان بالقاهرة أربك حياتهم وفرق شملهم بأن نجلتيها أصبحتا تقعدان فى بيوت أقاربهم وبعد بدء الدراسة أصبحت الأمور أكثر تعقيداً، والعلاج سيستمر 3 سنوات، ما يعنى استمرار هذا الوضع لأجل غير معلوم، وطالبت بفتح فرع مستشفى 57357 بطنطا، لتعود حياتهم لطبيعتها وتتمكن من رعاية نجلتيها، وتساءلت: ما سر توقف تجهيزات فرع طنطا؟
وعن أمنية نجلها بمقابلة «السيسى»، قالت: فوجئت بطلب نجلى وهو ما جعل والده يأخذه على عاتقه ووعده بمحاولة تحقيق أمنيته بمقابلة الرئيس، وأرسل عدة تليغرافات إلى رئاسة الجمهورية بها أمنية طفل لا يتخطى عمره الـ7 سنوات، مصاب بالسرطان ويحلم بمقابلة رئيس الجمهورية، وأثناء وجود المهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، فى المستشفى لتكريم بعض الطلاب، طلب منه نجلها مقابلة «السيسى» فكان رد «محلب»: سأبلغه برسالتك، ولكن يبدو أن الرسائل لم تصله حتى الآن!
ويقول رضا زاهر، إن نجلته «أمانى» صاحبة الـ23 عاماً أصيبت بمرض السرطان فى الغدة قبل 9 شهور، وتعالَج بالكيماوى فى معهد أورام طنطا، بسبب تلوث مياه الشرب وعدم تنقيتها بصورة سليمة واختلاطها بمياه الصرف الصحى.
وأضاف: «شبكة مياه الشرب فى القرية متهالكة وليست لها شبكة صرف صحى، تقدم الأهالى بشكاوى ومذكرات عدة للمسئولين لإنشاء شبكة صرف صحى للقرية دون جدوى، ما جعلهم يُنشئون (طرنشات) أسفل منازلهم ويقومون بنقل مياه الصرف الصحى منها مرة كل أسبوع وإلقائها فى مصرف مجاور للقرية، وعلى طول هذا المصرف تنتشر الأراضى الزراعية التى يعتمد عليها الفلاحون فى رى أراضيهم الزراعية بسبب عدم وصول مياه الرى إليهم، ما يعنى أن المحاصيل أصبحت موبوءة بالأمراض الكيماوية، وبعد حصادها يتناولها الأهالى ليفاجأوا فيما بعد بإصابتهم هم وذويهم بأمراض الفشل الكبدى والسرطان».
يقول أحمد شوقى، عامل يبلغ من العمر 34 سنة، إنه اكتشف إصابة نجلته «شهد» التى تبلغ من العمر 4 سنوات، قبل 5 شهور، بعد أن ظهر عليها انتفاخ متزايد فى جسدها، وبعرضها على الطبيب أكد له أنها مصابة بورم فى الكلية اليسرى، وليست حساسية فى الجلد كما كانوا يعتقدون، وأحيلت إلى معهد ناصر للأورام لاستئصال الكلية اليسرى لها، وتلقيها العلاج الكيماوى، وحدد الأطباء لها الأسبوع المقبل موعداً لإجراء عملية زرع نخاع بالمعهد القومى للأورام.
وأضاف: «حالة ابنتى الصحية تتدهور بسبب تزايد الانتفاخ وانتشار المرض فى جسدها، إلا أن معهد أورام طنطا رفض استقبالها فى الحال بدعوى عدم وجود أماكن ووُضعت فى قائمة الانتظار، ما اضطرنى إلى التوجه بها إلى معهد ناصر للأورام من أجل علاجها، بسبب حالتى المادية السيئة وعدم قدرتى على تحمل تكاليف السفر بشكل دائم، وكنت أبيت على رصيف المعهد»، وطالب بسرعة افتتاح فرع طنطا وإنشاء فروع أخرى لمستشفى 57 فى كل محافظات مصر من أجل المئات الذين يضطرون للمبيت فى الشوارع وعلى الأرصفة وتكبد مصاريف إضافية لعلاج ذويهم أو أنفسهم.
وأوضح رضا العربى، والد الطفل «أنس»، فى الصف الثانى الابتدائى، مصاب بالسرطان، استؤصلت كليته اليمنى، أن القرية فى أقل من شهرين شهدت 5 حالات إصابة بمرض السرطان منها 3 أطفال، توفى منهم حالتان الأسبوع الماضى، الأولى لشاب فى العقد الثالث من عمره يُدعى «عبدالعزيز. س»، توفى فجأة بعد إصابته بنزيف بالدم وألم فى العظام ولم يتمكن أهله من نقله للمستشفى، والثانية لطفلة تُدعى «هند. ع»، 3 سنوات، مصابة بسرطان فى خلايا المخ.
وأضاف أن القرية سجلت خلال الـ3 سنوات الماضية نحو 28 حالة إصابة بمرض السرطان، منها 3 حالات توفيت و25 حالة ما بين علاج بالكيماوى وإجراء عمليات استئصال وزع نخاع، إلى جانب أن نحو 25% من سكان القرية يعانون مرض الفشل الكلوى ويقومون بإجراء غسيل كل أسبوع، وهناك فتاة لا يتخطى عمرها الـ14 توفيت منذ 4 أشهر كانت تعانى الفشل الكلوى بسبب تلوث المياه.
وفى لافتة إنسانية، تبرع تلاميذ وطلاب مدرسة مشلة الابتدائية بمبلغ 2000 جنيه لصالح مستشفى 57357 لسرطان الأطفال تضامناً مع زميلهم أحمد المسيرى، المصاب بالسرطان ويعالج فى المستشفى.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com