أريد في البداية أن أنبه القارئ العزيز إلي أن هذا الحوار الدائر الآن حول الخطاب الديني لم يبدأ اليوم، وإنما بدأ في اللحظة التي انتقلت فيها مصر من حال كانت تواصل فيها حياتها الموروثة من العصور الوسطي،
وتحتكم فيها لثقافة هذه العصور التي طال ليلها إلي حال أخري تغيرت فيها حياتها تغيرا جوهريا، وتغيرت ثقافتها، وتعددت مصادرها ومراجعها وتطورت علي النحو الذي باعد بين الواقع الجديد في كل مجالاته وبين الخطاب الديني الموروث الذي أصبح في أشد الحاجة إلي المراجعة والتصحيح بخطاب ديني جديد نعود فيه للإسلام ذاته، ولا نكتفي بما فهمه القدماء منه في القرون الماضية.
في هذا الخطاب الديني الجديد نعود للأصل، أي للجوهر الباقي، نستلهم ما في الإسلام من طاقات روحية لا تنفد، ومثل عليا صالحة لكل زمان ومكان، وإجابات عن أسئلة الحاضر أكثر بكثير من الإجابات التي قدمها لأسئلة الماضي وأقرب إلي روحه. لأن الماضي كان محكوما بظروف الماضي وأوضاعه وشروطه التي لم تتفق دائما مع قيم الإسلام الرفيعة ومثله العليا ومقاصده. أما الحاضر فنحن فيه أكثر وعيا وأكثر حرية وأكثر قدرة. وبوسعنا إذن أن نجد في الإسلام ما نبحث عنه في هذه الأيام من إجابات نحتاج في استنباطها لإعمال عقولنا، والإيمان بحقنا في التقدم والتحرر، والثقة في أنفسنا وفي قدرتنا علي التجديد والإضافة لما وصل إليه المسلمون الأوائل. هم رجال ونحن رجال. وإذا كانوا قد وصلوا إلي ما وصلوا إليه وهو هذا الخطاب أو هذه الخطابات التي أورثونا إياها، فعلينا نحن بالمثل أن نستجيب لمطالب زماننا، ونجدد خطابنا بما يلبي هذه المطالب، لأننا أعلم منهم بشئون دنيانا.
غير أن الزمان ليس ملكا خالصا لمطلب واحد أو جيل واحد. وإنما هو ساحة تتصارع فيها المطالب والمصالح والأفكار والأجيال. الذين يريدون الديمقراطية غير الذين يكتفون بالشوري وغير المستفيدين من الطغيان. والذين يطلبون العدالة يهددون الذين استأثروا بكل شيء.. هؤلاء وأولئك تثير قلقهم الدعوة لمراجعة الخطاب الديني وتخيفهم المطالبة بتجديده.. لأن تجديد الخطاب الديني يجردهم من أسلحتهم، ويسقط حجتهم التي يحتكرون بها السلطة والثروة وهي مرجعيتهم الدينية التي اكتسبوها قبل كل شيء بالخلط بين الدين وبين الخطاب الديني الذي يتبنونه. فنحن لا نكون مسلمين في نظرهم إلا إذا التزمنا هذا الخطاب ورجعنا إليهم فيه، لأنهم سدنة هذا الخطاب وولاة أمره، وإذن فهم ولاة أمورنا، الكلمة كلمتهم، والسلطة سلطتهم.
من هنا لابد من التمييز بين الدين وبين الخطاب الديني. فما هو الدين؟ وما هو الفرق بينه وبين الخطاب الديني؟
الدين هو الوحي الإلهي الثابت. وهو المطلق الذي لا يتغير ولا يتبدل. أما الخطاب الديني فهو الجهد البشري الذي نبذله في تلقي هذا الوحي والاتصال بهذا المطلق أو الاقتراب منه وفهمه بقدر ما نستطيع لنعرف الموقف الذي يجب علينا أن نقفه ونتبناه تجاه الحوادث والتطورات التي تجد في حياتنا، مستندين في ذلك لأصول الدين الثابتة التي نحرص علي أن نتمثل روحها ونصل لجوهرها، وإن اختلفت طرقنا من عصر لعصر ومن جيل إلي جيل.
لكن الخلط بين الدين والخطاب الديني أو بين الغاية والوسيلة كان شائعا عندنا دائما في الأقوال والأفعال. لأن حياتنا ظلت راكدة قرونا طويلة أغلق فيها باب الاجتهاد وأصبح كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم صحونا فجأة علي العصور الحديثة تقتحم علينا عزلتنا وتبدد هدأتنا ممثلة في هذه الحضارة الأوروبية التي تمصرت في بلادنا وأصبحت مصدرا أساسيا نرجع إليه ونستلهمه في كل مجالات الحياة. فمصر دولة وطنية وليست إمارة دينية. والمواطنة هي الرابطة التي تجمع بين المصريين علي اختلاف عقائدهم الدينية وأصولهم العرقية. والنظام ديموقراطي، لأن الأمة هي أصل الوجود الوطني، فهي إذن مصدر كل السطات. والديمقراطية واحدة في العالم كله، لان الحرية واحدة. و النظم الاقتصادية هي النظم الاقتصادية، والكيمياء في مصر لاتختلف عن الكيمياء في المانيا. والطب هو الطب. ونجيب محفوظ مقروء بكل اللغات. والمرأة مساوية للرجل. وحقوق الانسان هي حقوق الانسان.
لكن هذه الحياة الجديدة كلها كانت في واد وكان الخطاب الديني في واد آخر.
الخطاب الديني سؤال واحد يتكرر منذ وصل رفاعة رافع الطهطاوي الي مرسيليا قبل مايقرب من قرنين فاحتجزه الفرنسيون هو ومن معه من اعضاء البعثة المصرية في الكرنتينة اي الحجر الصحي، ليتأكدوا من سلامتهم من الامراض المعدية، فأخذ الطهطاوي يسأل عن الكرنتينة حلال ام حرام؟! وهل يمثل الحجر الصحي والخوف من المرض اعتراضا علي القضاء والقدر ام انه احتياط مسموح به؟ واذا كان الطهطاوي قد تجاوز هذا السؤال بعد ان قرأ فلاسفة التنوير وتحمس لافكارهم وعرف ن الارض الكروية، وترجم الدستور الفرنسي، واكتشف مصر القديمة وامتلأ زهوا بحضارتها فالكثيرون منا لايزالون حتي الان يقفون امام الكرنتينة ويسألون: حرام ام حلال؟ والاجابة في معظم الاحيان :حرام الآن معظم مانسأل عنه لم يكن له وجود في الماضي، فضلا عن انه منقول أو مقتبس من حضارة اخري «كافرة» ولهذا يعتبره المتزمتون المتعصبون دخيلا، واحيانا نجسا، يتعارض مع النقاء والخصوصية، فعلينا ان نبتعد عنه ونتجنبه.
في أوائل القرن الماضي، القرن العشرين، الذي ظهر فيه كبار علماء الذرة، والطب، والهندسة الوراثية، والالكترونيات، وبدأ عصر الفضاء ووصل الانسان الي القمر ـ في هذا القرن ظل كثير من علماء الازهر متشبثين بكتبهم الصفراء وعلومهم الموروثة المحفوظة لايضيفون اليها جديدا من علوم العصر ومكتشفاته، ولايراجعونها علي اصولها الاولي التي تأسست عليها الثقافة العربية الاسلامية حين كانت هذه الثقافة حية مزدهرة وكان من حق العالم المتفقه ان يجتهد في الاجابة عن السؤآل وفي التوفيق بين العقل والنقل وبين الدين والخطاب
والذي يرجع الي مؤلفات الامام محمد عبده ولما كتب عنه وعن تلاميذه ويقرأ شهادات الازهريين ومذكراتهم حول هذا الموضوع مثل كتاب الشيخ عبدالمتعال الصعيدي» تاريخ الإصلاح في الأزهر» الصادر عام 1943، ومذكرات الشيخ الظواهري التي صدرت عام 1945 بعنوان «السياسة والازهر» يري كيف اشتد الصراع بين الداعين للتجديد والاجتهاد وبين المحافظين من امثال الشيخ الامبابي وغيره ممن ظلوا الي اوائل القرن العشرين يرفضون تدريس المنطق ويقولون قولتهم الشهيرة: من تمنطق فقد تزندق! لان المنطق هو طريق العقل في تحصيل المعارف والتمييز بين الوهم والحقيقة والصواب والخطأ وهم يكرهون العقل لانه يزعجهم بأسئلته ويأخذهم بعيدا عن منطقة التسليم والاذعان التي القوا فيها رجالهم منذ قرون واستراحوا وراحوا في سبات عميق، ولهذا يكرهون المنطق ويرفضون تدريسه، بل انهم كانوا يرفضون تدريس الحساب والجبر والتاريخ للسبب ذاته. فالحساب تركيب وتحليل مثله مثل المنطق، جمع وطرح وضرب وقسمة والتاريخ ماض وحاضر. وهم لايميزون بينهما لانهم يحنطون. الماضي ويفرضونه علي الحاضر ولو انهم ميزوا بينهما لاكتشفوا ان العالم يتغير ويتطور وان الانسان يزداد كل يوم خبرة في الوقت الذي تتراجع فيه قيمة ماتلقاه من علوم الماضي وافكاره فعليه ان يراجعها ويجددها وهو مطلب عارضه معظم شيوخ الازهر في ذلك الوقت واعتبروه تهديدا لهم وللسلطة التي كانت تؤيدهم وتستخدمهم.
ومن المؤكد ان الامر اختلف الان بعد ان مر اكثر من قرن علي تحريم تدريس الحساب وصار الازهر جامعة تفتح صدرها لعلوم العصر مثلها مثل اي جامعة اخري، وتولي مشيخة الازهر علماء كبار جمعوا بين الثقافة العربية الاسلامية والثقافة الغربية من امثال مصطفي المراغي ومصطفي عبدالرازق، وأحمد الطيب وظهر فيه مثقفون ثوريون يطالبون بالتجديد ، ويدافعون عن العقل وينحازون للديمقراطية من امثال علي عبدالرازق،وخالد محمد خالد
لكننا لا نزال نفاجأ حتي الآن بمن يقفون من رجال الأزهر أمام الكرنتينة ويسألون: حرام أم حلال؟ ثم نفاجأ أكثر حين نراهم يؤكدون أن الكرنتينة التي لم تسبب لهم مشكلة ولم يأت ذكرها في كتاب أو سنة حرام!
نسألهم عن الديموقراطية فلا تسمع جوابا صريحا. لأن الديموقراطية تجعل الحاكمية للأمة، لا لنصوص الدين ولا لرجال الدين. وإذن فهي حرام. وهي عند البعض الآخر حلال بشرط أن تكون شوري، أي بشرط ألا تكون ديموقراطية!
ونسألهم عن الفن فيقولون لنا إن التماثيل يمكن أن تتحول إلي أصنام! والغناء ينبت النفاق في القلب.
ونسألهم عن المواطنة فيدافعون عن الجزية. ونطالب بأن تكون الدولة مدنية لا عسكرية ولا دينية فيقولون لنا أنتم علمانيون!
نعم. نحن علمانيون لأننا لا نخلط بين الدين والسياسة، ونميز بين الدين وبين الخطاب الديني، أو بين الدين والخطابات الدينية التي لابد ان تتعدد. لأن الدين وإن كان واحدا في الأصل فالمؤمنون به ليسوا فردا واحدا، وليسوا جماعة واحدة، وليسوا زمنا واحدا ولا ثقافة واحدة، ولا بيئة واحدة. لا في الحاضر، ولا في الماضي.
في الماضي تعددت الفرق الإسلامية، فهي سنة وشيعة، ومعتزلة وأشاعرة، وفلاسفة ومتصوفة، وخوارج ودروز. وفي الحاضر إلي جانب هؤلاء وهابيون وسنوسيون، وإخوان وسلفيون، وقطبيون وإرهابيون. إرهاب بالقول وإرهاب بالقول والفعل معا. والحل؟
الحل عدم الخلط بين الدين والسياسة، والتمييز الحاسم بين الدين وبين الخطابات الدينية التي يحق لها جميعا أن تشارك في هذا الحوار الذي لم ينقطع طوال القرنين الماضيين، ابتداء من الطهطاوي الذي طالب بتجديد الخطاب الديني في كتابه الذي سماه »القول السديد في الاجتهاد والتجديد« إلي كتاب نصر حامد أبو زيد »نقد الخطاب الديني« الذي صدر قبل عشرين عاما ونبهنا أكثر مما فعل أي كتاب آخر إلي الخطأ الذي نقع فيه حين نخلط بين الإسلام وبين ما نفهمه منه في ظل أوضاع وظروف وشروط تتغير باستمرار.
هذا الخطأ ربما كان محتملا في الماضي حين كان مشروع النهضة قويا راسخا منتصرا يشجعنا علي التخلص من أغلال الماضي والاندفاع في آفاق المستقبل. لكن أحوالنا اختلفت بعد الهزيمة التي حاقت بهذا المشروع وما صاحبها في المنطقة، وفي العالم من هزائم متوالية فقدنا معها الأمل وانسقنا لهذه الردة التي اعتبرها بعضهم صحوة إسلامية، وهي صحوة أزياء ولحي وليست صحوة عقول وقلوب. بل هي نكبة جديدة لم نخرج منها إلا بالثورة التي أسقطنا فيها دكتاتورية الاسلام السياسي بعد أن أسقطنا دكتاتورية يوليو العسكرية فانفتح أمامنا المجال وانهالت علينا الأسئلة وأصبحنا مطالبين من جديد بالتمييز بين الدين والخطاب الديني.
وهذا بالضبط هو ما ننتظره من الأزهر ورجاله الأفاضل، لأن الأزهر مؤسسة علمية عريقة تشتغل بعلوم الدين وتميز بين أصوله وفروعه، وليس سلطة، أو حزبا. لكننا لا نستطيع دائما أن نضمن هذه الموضوعية. لأن الأزهر ليس رأيا واحدا ولا اتجاها واحدا. الطيب غير القرضاوي، ومفتي الجمهورية غير الإخوان، فهل نستسلم لهذا الخلط ونسكت عليه؟ لا. لأن الاستمرار في الخلط يهدد بعودة الإخوان أو بأن يحل محلهم من لا يختلفون عنهم، وهذا هو الخطر الذي يجب علي المستنيرين من المثقفين وعلماء الدين أن يتصدوا له بشجاعة وموضوعية.
نقلا عن الاهرام
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com