أحاول جاهدا انتزاع نفسي انتزاعا من بيئة ثقافية متخلفة ومعادية للعقل والقيمة، لأهرب لفترة زمنية سابقة وقديمة كنا فيها نعمل بإخلاص من أجل حياة أكثر جمالا وعدالة.
أعود بك إلى الثقافة الجماهيرية عقب النكسة مباشرة، وهو ذلك الوقت الذي شعر فيه المثقفون جميعا بدرجة ملحوظة من الإحساس بالذنب، وكأنهم قصروا في أداء أدوارهم فنتجت عن ذلك الهزيمة، أو ربما استولت علينا جميعا درجة من الضياع دفعتنا لمغادرة القاهرة للعمل في الأقاليم، وهو ما كان متاحا لنا عن طريق الثقافة الجماهيرية. عينت قيادة جديدة للثقافة الجماهيرية من ثلاثة أشخاص، دعني أقدمهم لك، سعد كامل مديرا، وألفريد فرج مستشارا، وحمدي غيث مسؤولا عن إدارة المسرح، وهو تشكيل موفق، إذا أخذنا في الاعتبار أن النشاط المسرحي هو رمانة الميزان في كل الأنشطة الثقافية؛ سعد كامل كان كاتبا صحافيا ووجها يساريا مشهورا وإنسانا يتسم بالعذوبة ويجيد قيادة البشر.
أما ألفريد فرج فكان كاتبا مسرحيا من الوزن الثقيل، من ذلك النوع الذي تنتجه الجماعة البشرية مرة واحدة كل ألف عام، أما حمدي غيث فكان ممثلا «عتويلا» ومخرجا رصينا، وبدأ الثلاثة في العمل، متخطين كل العقبات الإدارية، وللعلم.. استحدثت وظيفة جديدة في قصور الثقافة، وهي المشرف الفني وهو الشخص المسؤول فعليا عن كل أنشطة القصر، ومن الناحية الإدارية كان يتم تعيينه نائبا لمدير القصر، هكذا رأينا الفنان التشكيلي الكبير هبة عنايت في أسيوط، والأديب يعقوب الشاروني في بني سويف، والفنان التشكيلي عز الدين نجيب في كفر الشيخ، والمؤلف المسرحي محمود دياب في الإسكندرية في قصر ثقافة الحرية، والفنان التشكيلي فاروق حسني، قصر ثقافة الأنفوشي ثم كاتب هذه السطور في قصر ثقافة أسوان.
وأصل الحكاية هو أنني قررت الذهاب إلى مكان بعيد لا يرحب أحد بالذهاب إليه. الواقع أنه من الناحية العملية، أسوان بفضل الطيران هي أقرب مكان لمصر، هي بعيدة فقط عن أيدي الموظفين لذلك سيجدون صعوبة في تعطيلك. ذهبت إلى حمدي غيث - رحم الله الجميع - وقلت له: أعطني مخرجا من المخرجين الشبان وسأقوم بعمل خلية مسرحية تقدم عروضها في أسوان ومراكزها وقراها.. أنا أفكر في تقديم عرض مكون من فصلين، «بير القمح» و«أغنية على الممر» اللتين يقدمهما المسرح الحديث في هذا الموسم.
فرد عليّ: لأ.. لن أرسل معك مخرجا.. ستقوم أنت بإخراج العرض المسرحي.. ستسافر إلى أسوان غدا وحدك لكي تكون مسؤولا عما تقدمه.
فقلت له: من أين جاءتك هذه الثقة في أنني قادر على عملية الإخراج مع أنني لم أمارسه من قبل.
فقال لي: لقد قرأت أعمالك وقرأتك أنت أيضا شخصيا من خلال أحاديثنا الطويلة ولقاءاتنا المتعددة وأعرف أنك قادر على إخراج أعمالك بشكل ممتاز.
هكذا سافرت إلى أسوان في قطار النوم بغير أن أعرف شيئا عن الممثلين الهواة هناك، ووصلت في الصباح وقابلت مدير القصر وهو محجوب عبده، قصاص نوبي ومحام، وإنسان عذب للغاية يشع حبا وتعاونا. حدثني عن فرق الهواة في أسوان وعن الخلافات التي تمزقهم فطلبت منه أن يدعوهم جميعا للقاء معي في المساء.
نقلا عن الشرق الاوسط
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com