بقلم:محمد المخزنجي
( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة النحل الآيتان 68-69.
فى الأسبوع الماضى، تصادف أننى كنت أنهى قراءة كتاب «دور الصدفة والغباء فى تغيير مجرى التاريخ»، الذى كرَّس مؤلفه «إريك دورتشميد» فصوله السبعة عشر لتقديم نظرة تأمل وتمحيص فى تاريخ الحروب، منذ حصان طروادة حتى حرب الخليج، يكشف فيها بأسلوب سردى أخَّاذ عن الحادث الذى حول النصر إلى هزيمة فى لحظة تُعرف باسم «العامل الحاسم» فى كثير من المعارك. ومع تراكم الأخطاء والصُدف غير السارة فى نهاية أسبوعنا الماضى، وجدتنى أعود إلى فصل فى الكتاب عنوانه «لسعة نحلة تانجا»، عثرت فى تعدد أطرافه وتشابك خيوطه ومسخرة مأساته، على مُشابِهات لتعدد وتشابك ومسخرة وقائع أسبوعنا الماضى.
فى 5 نوفمبر1914 كانت الحرب العالمية الأولى فى بواكيرها، وبسطوة الهيمنة الاستعمارية ساهمت أفريقيا مرغمة بالدخول فى أولى معارك هذه الحرب على أرضها، جمع الجنرال البريطانى «أيتكن» ثمانية آلاف من أبناء الهند التى كانت مستعمرة بريطانية واتجه بهم إلى ساحل أفريقيا الشرقى لمواجهة الألمان فى مستعمراتهم ( رواندا وبوروندى الآن)، أنزل الجنرال هنوده الثمانية آلاف فى «تانجا» التنزانية البريطانية، مستهدفا مفاجأة الألمان المتمركزين ليس بعيدا، وكان واثقا من أن هزيمتهم مجرد نزهة، فليس لديهم غير ثمانمائة من الأفارقة أبناء القبائل المحلية، اتخذوهم جنودا ودربوهم على وجه السرعة للدخول فى هذه الحرب الكونية! وبالرغم من أن هنود القائد البريطانى كانوا حفاة مهلهلين، ولم يطلق معظمهم رصاصة واحدة فى حياته، إلا أنه كان واثقا أن انتصاره سيكون سهلا بفضل بنادقه الحديثة وتفوقه العددى، وظل مرابطا فى سفينة القيادة قبالة المنطقة التى ستكون ساحة للمعركة المظفرة، ينتظر لحظة اكتساح الألمان، والدخول بمدافع سفينته فى النهاية لتأكيد الاكتساح.
نزل هنود الجنرال البريطانى وقادتهم من الضباط الإنجليز بعتادهم الزاخر إلى الشاطئ عند حلول الظلام على بعد ميل واحد من موقع تمركز الألمان، وكان نزولهم فى منطقة مستنقعات عسيرة الاجتياز وموبوءة بالبعوض والأفاعى السامة، ولأن الهنود لم يكونوا قد غادروا قراهم من قبل، وتستولى على مخيلاتهم إشاعات بحارة سابقين عن أهوال أكلة لحوم البشر الأفارقة ووحشية الألمان، فإنهم أظهروا ذعرا جعلهم يطلقون النار على أى ظلال تمر بهم، ولم تكن هذه الظلال إلا رفاقهم المضطربين فى الظلام! ومع انبلاج الفجر اتضحت المأساة التى حصدت العشرات منهم بيد زملائهم، كما اتضح سوء المنطقة التى يخوضون فيها، وقد اكتشفهم الألمان لكنهم تركوهم يكابدون حتى ينالهم الإنهاك واليأس، فيسهل اصطيادهم فى النهاية، لكن هذا «التكتيك» الألمانى لم يكن هو الذى أودى بالحملة البريطانية فى هذه المعركة؟!.
كان المستنقع محاطا بأشجار ميتة تطاول أغصانها الرمادية السماء، ومن هذه الأغصان تتدلى سلال ضخمة استخدمها المواطنون المحليون فيما مضى كخلايا للنحل، والنحل الأفريقى عدوانى وكبير الحجم ولعسله طعم حمضى شهى لمن يعرفون كيف يقون أنفسهم من لسعاته بدهن وجوههم وأذرعهم بطبقة كثيفة من الشحم، وقد أدى صخب إطلاق النار المستمر إلى إقلاق هدوء النحل، فطارت أسرابه المتجمعة على قمم الأشجار، وتفرقت فى هياج قبل أن تهاجم المتقدمين من «الجيش البريطانى». وتحت وابل اللسعات النارية ولَّى الجنود الأدبار وفى أعقابهم النحل الغاضب. ولابد أن الجنرال «أيتكن» فى سفينة القيادة كان فى حالة استغراب، وهو يشاهد جنوده وضباطه يضطربون فى سعار، وقد تخلوا عن بنادقهم، محركين أذرعهم كطواحين الهواء وهم يهربون من مستنقع أشجار المنجروف باتجاه مياه المحيط! وكان الألمان يتصيدونهم وكأنهم يتسلون بعد انتصارهم الساحق، فى معركة لم يخوضوها!
كانت الصدفة والغباء مفسِّرين لهزيمة هذه الحملة البريطانية من زاوية الرؤية البشرية، أما من الزاوية الفطرية فقد كان النحل ينتصر لحقه فى الطمأنينة والاستقرار ليتفرغ لدوره فى الحياة الذى يؤديه بدأب وجدية لا مثيل لهما. والنحل ليس مجرد نوع من «الحشرات الاجتماعية»، كما يصنفه علماء الأحياء، بل هو قمة فى السلوك المجتمعى بين الكائنات جميعا، مذهل التفانى فى تحقيق الغاية العظمى من الحياة لدى كل حى: أن ينمو كفردٍ فى عيشٍ كُفء، ويساهم فى حفظ النوع بالتكاثر وإعداد المستقبل الأفضل للذرية. وفى سبيل هذه الغاية تضحى ملكة النحل بحريتها حتى تتفرغ لحمل البيض ووضعه منفردة، وترضى الشغالات بعقمهن حتى يتفرغن لخدمة الخلية، وحتى الذكور الذين يوصفون بالتنبلة ويكون عددهم قليلا جدا مقارنة بآلاف الشغالة، لا يكرسون حياتهم لحلم النشوة مع الملكة كما يتشابه علينا، بل يقبلون بسباق قاتل لنيل شرف اصطفاء الجينات الأفضل لنحل المستقبل، ويموت الفائز بعد العناق!
هذا النحل المُشرِّف بسورة كاملة فى القرآن الكريم، والذى اختصه رب العالمين بما لم يختص به سوى الأنبياء عندما ألهمه وحْياً إلى سُبل حياته، ظل أهلا للتشريف، يمنح الحياة عسلا ويثريها خِصبا، حتى ليقال إن نقل حبوب اللقاح بين الأزهار تأهيلا للإثمار، والتى يقوم بها النحل وحده، تعادل كل ما تقوم به سائر الحشرات والطيور والرياح. ولم يكن ممكنا للنحل أن يقوم بما يقوم به من أدوار بنَّاءة فى الحياة، إلا بتآزر مجتمعى وقانون حاسم ينسق أدواره، أى «نظام مستقر» بلغة البشر، يوافر طمأنينة تُيسِّر له الإبداع والعطاء، لهذا كان غضب نحل تانجا شديدا عندما أزعجته رعونة الغزاة وأربكت دأبه، فطاردهم وطردهم،لا شأن له بحساباتهم الخاطئة. وهل كان ما كان فى أسبوعنا الماضى إلا جملة من الحسابات الخاطئة؟
قانون تظاهر لم يتحسب واضعوه لردود الفعل السلبية عليه، وتظاهرات لمجموعات محسوبة على الثورة تناست أن الدولة تخوض حربا ضد الإرهاب والتطرف وتفشيل مصر فاصطنعت صداما مع الشرطة لهدمها من جديد والتعامى عن سوء عاقبة ذلك. وحُكم غير منطقى على بنات صغيرات مُغرَّر بهن لا يستسيغه الضمير. وطالب هندسة تقتله طلقات داخل الحرم الجامعى، ولا أحد يقول لنا ما مصدرها. وأغرار كل ما يحركهم هو عداؤهم قصير النظر للشرطة والجيش دون تحسُّب للبديل القاتل حتى لهم. أسبوع من الحسابات الخاطئة التى أجراها كل طرف بهواه دون اعتبار لصالح الكل. النقيض تماما لسلوك النحل فى منظومته البديعة الخلاقة، فإذا كان نحل تانجا قد صرخ على طريقته لطرد الفوضى والغباء المربكين لحياته، بوابل من اللسعات الحامية كأنه يهتف: «النحل يريد استقرار النظام»، فإننا أولى بالخروج فى طوفان شعبى جديد، يصرخ بما تضج به صدور الأغلبية العظمى من المصريين، رفضا قاطعا لعودة حكم الإخوان تحت أى ذريعة ومن أى ثغرة، وشوقا إلى الاطمئنان وانتظام الحياة المُنتِجة، بلا جَورٍ حتى على الإخوان، ولا هزل تحت لافتة الثورية، نهتف: «الشعب يريد استقرار النظام».
نقلا عن: المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com