ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

هل هو فيروس مجهول ؟

د. نوال السعداوي | 2013-12-01 07:44:04

 الأستاذة فوقية المصرى تقوم بتدريس الفن المسرحى فى جامعة نيويورك منذ عام ١٩٩١، بعد أن هجرت مصر، إثر محاولة فاشلة لاغتيالها، اشترك فيها تنظيم دولى مع الحكومة المحلية ومنظمات دينية، أدت إلى ابتعاد زميلاتها وزملائها عنها حرصا على حياتهم ومناصبهم، وابتعاد أفراد أسرتها عنها خوفا على مصالحهم أيضا.

 
كانت الأستاذة تعيش حياة هادئة رتيبة، ثم وقع لها هذا الحادث، فبينما هى تسير كعادتها إلى الجامعة لمحت أحد طلابها واقفا يتأمل المياه الجارية تحت الكوبرى، لم تكن تحرص على إقامة علاقات وثيقة بالطلاب والطالبات، فهى تميل إلى الانطواء، وأغلبهم من الشباب الأمريكى فى العشرينات من عمرهم، يغلبهم المرح والحيوية والصخب الزائد، وهى امرأة من قارة أخرى تجاوزت مرحلة الشباب وتميل للوحدة والهدوء، لكن هذا الطالب كان يلفت انتباهها، فهو حساس للفن عميق التفكير.
 
توقفت الأستاذة عنده وهو واقف فى منتصف الكوبرى ظهره ناحيتها.. لم يلتفت إليها، ظلت يداه تقبضان على السور الحديدى وعيناه ثابتتان فوق المياه الجارية تحت الكوبرى، فوق كتفه جاكيت جينز رمادى.
 
مدت يدها ولمست يده الممسكة بالحديد، كانت باردة مثلجة مع أن الشمس ساطعة حارة فى صيف نيويورك، كأنما أيقظته اللمسة من الغيبوبة أو النوم فانتفض فجأة وقفز إلى الماء، أطلقت صرخة لم ينتبه لها أحد من راكبى السيارات الطويلة السريعة فوق الكوبرى.. فى مدينة نيويورك لا يسمع أحد صرخة أحد.
 
لم يترك وراءه إلا الجاكيت الجينز الذى انزلق عن كتفه وهو يقفز وسقط إلى الأرض قرب قدميها، انحنى جسمها النحيف وأمسكت الجاكيت بأصابع مرتعشة، كأنما تمسك قطعة من جسمه سقطت عنه، أرادت أن تلقيه وراءه فى الماء وتمضى قبل أن تلمحها عين، لكنها فتحت حقيبتها وخبأت الجاكيت داخلها. فى بيتها علقته فوق شماعة بالصالة، ثم جلست ترمقه من بعيد فى وجل كأنما داخله إنسان ميت.
 
لم يكن لها أن تستبقيه معها فى البيت أثناء الليل، جدتها المصرية عيوشة كانت تقول إن روح الميت تبقى فى ملابسه وتخرج فى الليل على شكل عفريت.
 
قررت أن تلقى الجاكت فى صندوق القمامة خارج البيت، بينما هى تلفه فى كيس نايلون أسود أحست شيئا فى الجيب العلوى، غلبها الفضول فوضعت يدها داخل الجيب، أخرجت ورقة مطوية، فتحتها، وقرأت سطورا مكتوبة بالإنجليزية بقلم رصاص :
 
حبيبتى مارجو ..
 
أعتذر لتخلفى عن موعدى بالأمس معك، شعرت بصداع مفاجئ فى نصف رأسى، ودوخة شديدة كأنما الأرض تدور بى، رقدت فوق السرير ربما أستعيد توازنى بعد قليل، غفوت لحظة، رأيت فيها نفسى واقفا عند الكوبرى أفكر فى التخلص من حياتى، لا أعرف سبب عزوفى عن الحياة هذه الأيام الأخيرة، هل لأنى أحبك كل هذا الحب وأخشى أن أفقدك، أم لأننى لم أحبك أبدا وأتمنى التخلص منك؟
 
أنا لا أومن باليقين المطلق الخالى من الشك، كل شىء مشكوك فيه حتى الحب، تصورت أن الحب هو الاستثناء الوحيد القادر على هزيمة الشك، لكنى اكتشفت أن الحب مثل كل شىء، عادى جدا، هذه الحقيقة أصبحت تعذبنى وتؤلمنى إلى حد الرغبة فى الموت، فالحب كان الشىء الوحيد الذى يعطى للحياة معنى.
 
كنت على يقين أننى أحبك ولا أستطيع الحياة دونك، لكن هذا اليقين لم يستمر طويلا، ثم بدأ يتسرب إلىّ الشك، مثل فيروس مجهول يسرى خلسة فى دمى، حاولت التخلص منه دون جدوى، فهل تغفرين لى ؟

نقلا عن المصري اليوم
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com