ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

أحمد عدوية.. إعادة اكتشاف الموال ومعانيه

| 2013-11-26 07:35:43

 لا حنين في الرجوع اليوم إلى أحمد عدوية، إلا أن في الجيل عدوى تنتشر بسرعة، نحن مواليد السبعينيات، الذين لم يفهموا سر نجوميته عندما شاهدوه مستعادًا في أفلام المقاولات بالقمصان المفتوحة الصدر والأغاني المستظرفة المستغربة، ربما نتخيل فيه رائحة الحواري القاهرية التي لم نعرفها، نحن أبناء الطبقة الوسطى، ونركّب فيه صورة عن الشعبي وابن البلد وحياته، لكن هذه الصورة لا تتركب على الأغاني السريعة بريتمات الأورج ولا على الرقص الجماعي في أفلام السبعينيات وبدايات الثمانينيات. قرأنا في المجلات وسمعنا في الحواديت عن اكتساحه المشهد الغنائي في مطلع السبعينيات إلى حد إجبار عبدالحليم حافظ، نجم مراهقتنا الأبدي، إلى الغناء معه والاعتراف بالرقّاق السابق نجمًا غنائيًّا وندًّا لمطرب العواطف (وإن كان الأمر ليس اعترافًا بل لحاقًا بشعبية عدوية)، رغم أن كلمات أغانيه كانت من طراز «السح الدح إمبو» و«كركشنجي دبح كبشه»، وكانت عمومًا أقل ظرفًا من خفة دم شكوكو وأغانيه المرحة!

 
لكننا، نحن الذين تنتشر الآن في أوساطنا عدوى عدوية نأتي إليه من أبواب أخرى، فثمة من يأتي من باب المواويل، وآخر يصل من باب العازفين الكبار الذين شاركوا عدوية، وآخر قد يأتي من بحثه في أصول ما صار يعرف الآن بالشعبي مع حمودة والليثي ومن شابههم، والبعض ربما يأتي من انزياح المزاج من ظرف الكلام إلى التعلق بالصوت والبهجة التي يشيعها. الجامع المشترك بيننا ربما يصير الانتباه إلى صوت عدوية وإلى العزف المرافق له، في توقف عن الحكم على كلماته بالرداءة أو الابتذال، بل ربما في توقف عن الانتباه إلى الكلمات أصلاً، وكلمات الموال تكرر المعتاد من الحكم الشعبية عمومًا، والالتفات بالمقابل إلى المادة الصوتية المبذول بسخاء أمامنا.
 
فصوت «عدوية» القوي متميز البحة والعرب (رغم أنها أقل فنية وتنوعًا من عرب المطربين الكبار مثل عباس البليدي أو كارم محمود، أو الأقدمين)، لكنه أيضًا يتميز حتى عن البليدي وكارم بأن طبيعته وأداءه وعربه نفسها تقترب من أساليب الناي والكولة، خلافًا للآخرين الذين تعلموا الغناء بمصاحبة العود أو من ملحنين هم أصلاً عازفو عود، بحيث تم استتباع الأداء الصوتي لإمكانيات العود وأساليب العوادين في الزخرفة والعفق.
 
من ناحية أخرى، مكّنت نجومية عدوية صاحبها من أن يتفوق على كتّاب ومغني الأغاني والمواويل الشعبية، ممن حفلت بهم الستينيات ولم تحتفِ بهم شركات السينما ولا التليفزيون مثل الريس حفني أحمد حسن مثلاً والست خضرة محمد خضر، وبالأخص من أن يجمع حوله بعض أفضل العازفين مثل حسن أبوالسعود (أكورديون) وعم عبد داغر (كمان) والمبدع سامي البابلي (ترومبيت) وسيد أبوشفة من يجعل الناي والكولة تنطق وتنافس طرب المغني. والأهم أن ثقافة عدوية الموسيقية، الآتية من الإنصات إلى الموسيقيين والمواويل وأماكن الغناء الشعبي، وطبيعة الموال أتاحت لهؤلاء العازفين مساحة كافية كي نستمع ونستمتع بإلهاماتهم.
 
لقد استطاع عدوية أن يجمع موسيقيين لائقين بالفن الباقي الأساسي، الموال، بتعدد دلالات الموال المديني. الموال هو ما يبقى من عدوية وهو معنى الرجوع إليه اليوم، رغم أن مواله في ذاته صيغة مبسطة من الموال الملغز الأقدم في التراث المصري والشامي والعراقي.
 
وبالتالي فإن المساحة التي أتاحها «عدوية» هي أيضًا ما حفظ لنا فنًّا موسيقيًّا كاملًا، ومقموعًا، من السلطنة الآلية والتقاسيم الموقّعة والترجمة العزفية للغناء.
 
فحين نسمع الفرق الكبيرة، حتى تلك التي صاحبت أم كلثوم ووردة ونجاة وغيرهم، نجد موقع التقاسيم محصورًا للغاية، بل حتى مع أم كلثوم تم استبدال التقسيم الحر الذي كان يؤديه العظيم محمد القصبجي، بما أصبح يسمى اصطلاحًا الصولو، أي المقطع المحضّر سلفًا الذي يعزفه موسيقي واحد ويحاول أن يضفي عليه بعض الزخرفة، ويمكن أن نستمع إلى إعادات الصولوهات حتى مع أم كلثوم، كي نكتشف محدودية أداء الصولو وانحصاره في جملة موضوعة سلفًا بالمقارنة مع حرية التقاسيم.
 
مع أحمد عدوية وخلفه نستمع إلى تقاسيم حرة، بعضها مع إيقاع وبعضها بدونه، كما نستمع أيضًا إلى ردود العازفين على «قوالته» (أي ما يسمى الترجمة)، وهو نمط الأداء الذي قمعته إرادة الملحنين، من أتباع مدرسة عبدالوهاب، ومن ثم الموزعين وقائدي الأوركسترا، في فرض أداء موحد ومضبوط اعتبروه «أنظف» من الأداء الذي يعبر عن عبقرية الموسيقيين وفرادة كل منهم وموهبته الخاصة التي تندمج في الموسيقى بتكاملها. في هذا، يربطنا أحمد عدوية بزمن أسبق ويسمح لنا بالقفز خلف صراعات «تنظيف» عزف الأوركسترا وتطوير الموسيقى العربية: ويسمح لنا بالعودة إلى طرب النهضة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وإن مع آلات جديدة كالترومبيت والأكورديون جرى تمصير العزف عليها.
 
جرى الأمر كما لو أن انهيار دولة الرقابة الأبوية، مع هزيمة ثم وفاة عبدالناصر، أتاح المجال لظهور طبقات فنية كانت مضمرة وملجمة، منذ ما قبل 52، بدعوى التحديث والتطوير والتنظيم والأيديولوجية التي رافقت ذلك والتي رفضت الحريات الفردية، حتى في عزف الموسيقى، وأرادت إخضاع كل شيء لهيمنة فوقية رأت فيها عن خطأ مرادفًا للعقلانية. وما صعود عدوية السبعينيات سوى تعبير عن رغبة الإفلات من الهيمنة التسلطية في الموسيقى وتنفيس للاحتقان الرومانتيكي الذي ولدته سنوات أحمد رامي وأحمد شوقي ومرسي جميل عزيز وحسين السيد ومن جاراهم.
 
والاستماع اليوم إلى «عدوية» هو أيضًا خروج على التقسيم الذي يفترض فناً راقياً (أي بالدرجة الأولى متكلف الرومانتيكية في الكلام، بغض النظر عن مستوى الألحان) وفناً هابطاً (معيار الحكم عليه هو كلمات الأغنية وليس موسيقاها)، والإعجاب بعدوية اليوم هو إعجاب بالموسيقيين الذين يصنعون البهجة حوله ومعه وبخيالهم الموسيقي ونكهته الفريدة وهو في الوقت ذاته إعادة اكتشاف لمعنى فن الموال، من حيث هو فن الحرية الاستعراض الموسيقي والصوتي واللعب بالكلام وخفته والفن الذي يحيلنا على تقدير الموسيقى، ليس لكونها في خدمة أيديولوجية سياسية ولا أيديولوجية موسيقية بل فقط لكونها موسيقى.
 
بالموال، نعيد اكتشاف السماع وحاسته واستقلالها عن خدمة أي سلطة، فالموسيقى تهرب في الزمن ولا يمكن الإمساك بها متى خرجت على قيود التكرار، لتكون فعلاً موسيقى الطرب، أي الموسيقى التي تذهب العقل وتترك الخفة في النفس المسرورة.
 
 

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com