مكانة رجال الدين ضعيفة في المجتمع البدوي عموماً. وفي بدايات تشكل الدولة، كان هنالك نوع من اتفاق بين رجل الدين والسياسي. رجل الدين ترك التدخل بالسياسة التي أصبحت أكثر تعقيدا من ممارساته البسيطة للقيادة المجتمعية، وفي مقابل هذا التخلي أراد رجل الدين من السياسي أن يتيح له منفذا للسيطرة على أمرين في المجتمع: المرأة والتعليم.
كان من السهل عقد هذا الاتفاق بين الطرفين. خصوصا في ظل بنية دولة "الريع"، التي من سماتها دعم الأبوية في المجتمع. منذ صعود النفط في السبعينات، تم أخذ هذا الاتفاق لمراحل أبعد. كتب مايكل روس فصلا كاملا في كتابه "لعنة النفط، 2012" عن العلاقة بين وجود النفط وانخفاض مكانة المرأة في المجتمع. النفط يعني قوة متكدسة في يد الرجال. وعبر المال، كان بالإمكان القيام بكل متطلبات هذا الاتفاق، ومن ذلك متطلبات العزل الحاد بين قسمي المجتمع. هل يتطلب ذلك إنشاء وزارة تعليم مستقلة؟ هل يتطلب شعباً إضافيا من السائقين؟ مبان؟ الخ.. لا مشكلة، الريع سيسهل تحقيق كل ذلك، فلطالما كان الريع صاحب الحلول والخيارات السهلة، حتى لو كانت هذه الحلول سلبية على المجتمع وحكومته في المدى الأبعد.
الخاسر من هذا الاتفاق هو المجتمع. المجتمع فقد مستواه الطبيعي والإنساني. هناك حقوق على المستوى الطبيعي للإنسان ليس من حق دولة ولا مجتمع ولا أحد أن يحرم الإنسان الفرد منها!. حين يفتتح الإنسان (رجلا أو امرأة)، محله التجاري الخاص، أو حين يريد أن يقود سيارته بنفسه، فليس من حق أحد منعه من ذلك. هذه حقوق. الافتراضات في "مخيلتك"، أو في "مقايساتك" الفقهية والتاريخية والاجتماعية، لا تعني شيئاً هنا.. إن عدو المجتمع الطبيعي شخص متخم بالافتراضات: تخيل لو حدث ذلك، ماذا لو حدث ذاك..الخ.
لقد تم إحلال الثقافة الدينية محل ثقافة القبيلة بعد تنامي المدن. تولى السياسي بناء الدولة، بينما تُركت تعبئة الجانب الثقافي في المجتمع إلى رجال الدين. من هنا أصبح رجال الدين أصحاب "رأس المال" الثقافي الأبرز مجتمعياً، ومن هنا يفهم وقوفهم ضد أي تغير يقترب. إن أي تغيرات، ولو طفيفة، على مستوى التعليم أو على صعيد الموازنة الاجتماعية القائمة (ومن ذلك وضع المرأة) يُرشح احداث تغيرات بنيوية تخلخل الوضع القائم. وهذا ما لا تريده القوى القائمة اليوم. والمجتمع أضعف من أن يفاوض حول هذا التغيير، فالنخب الموجود اليوم، تمت صناعتها أصلا تحت ظل الريع، وعلى مبدأ "الولاء" لا على مبدأ "الكفاءة". ولذا نلاحظ أن هذه النخب في الحراك الأخير كانت "فرعوناً" لا "عوناً".
إن مشاكسة الماضي، وإحلال الجديد مكانه، تخلق الكثير من الأعداء.. هكذا تقول عبارة سمعتها بأحد الأفلام. ليس ذنب من يريد أن يحيا حياة طبيعية اليوم أن يخسرها في سبيل الافتراضات والمقايسات، وفي سبيل ماض لا يود البعض تغيير بعض ملامحه. إن الواقع متحرك، لكننا لا نفعل.
السياسي اليوم يتباعد عن رؤية الفقيه. يذكر الباحث السعودي خالد الدخيل أن رؤية الدولة تغيرت واتسعت، بينما رؤية الفقيه تجمدت ولم تعد تتسع لرؤية الدولة. وهناك قرارات تمت في البلد في السنوات الأخيرة تجاوز فيها السياسي رأي الفقيه، مثل قرار دخولها مجلس الشورى، وحصولها لأول مرة على مرتبة وزير، واستحداث وظائف جديدة في الجوازات ووزارة التجارة والصناعة.. بينما نجد أن حسابات الفقيه والسياسي اليوم لم تتح انفراجاً في مسألة قيادة المرأة، تبعا للمطالبات الأخيرة التي قامت بها ناشطات في السعودية. ما هو أسوأ من ذلك اليوم، هو وجود تحريض من البعض في المجتمع تجاه من قمن بهذه المبادرة.
إن صراع القوى، وصراع تملّك "رأس المال" الثقافي والهيمنة من خلاله، وجدل الفقيه، ودعوى المؤامرة، وصراع التيارات، ودعاوى أن المجتمع الغير مناسب (بالمناسبة من هم صانعي هذا المجتمع الغير مناسب؟!).. كل هذه الأمور والدعاوى وغيرها تتفتت وتختفي وتتصاغر أمام طلب بسيط من فرد يخبر أنه يريد أن يحيا حياته بطريقة "طبيعية وبسيطة"، ويخلع عن كتفيه كل هذه المخاوف والدعاوى.. لأن الإنسان ببساطة، لم يولد لنلبسه كل هذه العلل والمشاكل بالمجان..
في عصر صدر الإسلام، قال الجاحظ في مطلع رسالته عن "النساء": "ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل: إن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين، أو بأكثر، ولكنا رأينا ناساً يزرون عليهن أشد الزراية، ويحتقرونهن أشد الاحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن". إن الفتاة السعودية اليوم تمثل أغلب خريجي الجامعات السعودية، وعددهن كمبتعثات للدراسات العليا، يتجاوز عدد المبتعثين، بحسب تقرير صدر عن وزارة التعليم العالي.. فتيات اليوم، لدى كثير منهن جهازها المحمول أو هاتفها، الذي تقرأ وتتفاعل فيه مع كل شيء عبر الانترنت. كون الرأي السائد، يظن أن هذه الفئة أو الطبقة المتنامية عدداً ووعياً، يمكن أن تظل منعزلة من دون تفاعل وتأثير اجتماعي.. فهذه مشكلة كبرى والله!.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com