بقلم إسماعيل حسني
يكثر الحديث هذه الأيام عن العلمانية بينما لا يستطيع أكثر مؤيديها أو معارضيها تحديد ما يعنيه هذا المصطلح على وجه الدقة، كما يتصور البعض أن العلمانية مذهب سياسي أو أيديولوجية من حقه أن يؤمن أو يكفر بها، وهو ما سنحاول توضيحه ببساطة في السطور القليلة القادمة.
لفظ العلمانية مشتق من كلمة "عالم Universe " وليس من كلمة "علم science " كما يعتقد معظم الناس، ولقد ظهر للتفرقة بين رجال الدين وبين عامة الناس، وبين ممتلكات المؤسسات الدينية وأوقافها وبين ممتلكات الدولة والأشخاص العاديين. لهذا فالطريقة الأصح لنطق اللفظ هي "العالمانية" وليس العلمانية، إلا أن الأخير قد شاع استخدامه بين الناس لسهولته، وتحول إلى مصطلح في القاموس العربي، ولا نجد غضاضة في استخدامه.
فالعلماني هو الشخص الذي يهتم بأمور العالم المادي (الدنيا) أي يرتزق من خلال عمل يؤديه في أي شأن من شئون العالم المادي كالنجار والمهندس والطبيب والقاضي والفنان والمعلم.
وهو عكس رجل الدين الذي يهتم بأمور العالم الآخر، أي يكسب رزقه من خلال العمل في هذا المجال، مثل المشايخ والقساوسة والحاخامات وسائر رجال الدين، والعرافين والسحرة والمنجمون ومن إليهم.
بهذا المفهوم البسيط تكون العلمانية هي الإنتماء إلى العالم، والعمل فيه، ويكون كل الناس في الأصل علمانيون، سواء كانوا متدينون أو غير متدينين، فإذا كنت ترتزق من عمل من أعمال الدنيا فأنت علماني بحكم التعريف، وإذا كنت ترتزق من خلال العمل بمؤسسة دينية رسمية أو أهلية، فأنت تنتمي إلى زمرة رجال الدين بحكم التعريف.
فالطبيب شخص علماني، ولكنه إذا قرر أن يتفرغ للعبادة أو للدراسات الدينية، وأن يرتزق من خلال الإهتمام بشئون العالم الآخر فإنه ينضم إلى فئة رجال الدين، أي يصبح غير علماني.
والذي ضاعف من أهمية هذا المصطلح في القرون الماضية أن رجال الدين كانوا يحكمون أمورالعالم المادي وأمور العالم الآخر بأحكام مشتقة من الكتب الدينية، فلما ثبت في أكثر الأحيان خطأ ما تصدره المؤسسات الدينية من أحكام مثل القول بأن الأرض مسطحة، وأنها مركز العالم، وأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وأن جناح الذبابة فيه دواء، وغيرها، وكان لهذا نتائج وخيمة أهمها تجميد البحث العلمي، بل وتحريم دراسة العلوم الطبيعية كما رأينا في أدبيات الكهنة والبابوات وأئمة الإسلام مثل ابن تيمية وابن القيم وابن الصلاح وغيرهم، ثار الناس وطالبوا رجال الدين بالتوقف عن حكم شئون العالم من خلال الكتب السماوية، وترك الناس يحكمون العالم المادي بقوانين هذا العالم التي بدأ العلم في اكتشافها في مختلف مجالات الحياة العلمية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية. وكانت انطلاقة الفكر العلماني هي بداية عصر النهضة والحضارة الحديثة.
أي أن العلمانيون يقولون لرجال الدين احكموا الدين بقوانين الدين، ودعونا نحكم العالم بقوانين العالم، لأن الخلط بينهما يؤدي إلى التخلف والجمود من ناحية، وإلى تحطيم أحدهما للآخر من ناحية أخرى.
فالدين مطلق، ثابت، لا يقبل القسمة، أما العالم فهو نسبي، متغير تحكمه الحركة الدائمة، والخلط بين المطلق والنسبي يؤدي إلى إحدى حالتين، إما سيطرة المطلق على النسبي مما يؤدي لجمود العقل وعدم التطور كما رأينا في أوروبا في العهد الكنسي وفي بلادنا بعد سيطرة الحنابلة في منتصف العصر العباسي الثاني، أو تحطيم النسبي للمطلق إذا كان النسبي على درجة كبيرة من القوة، مثل انتشار الإلحاد بعد اكتشافات كوبرنيكيس وجاليليو وكريستوفر كولمبس وغيرهم.
إذن فالعلمانية مجرد مصطلح أو أداة تهدف لتنظيم الفكر الإنساني والمجتمع، ومنع الخلط بين المطلق والنسبي، أو بين أحكام الدين وأحكام العالم الدينيوي، وذلك لمصلحة كل من الدين والدنيا.
هذه الأداة إذا استخدمها نظام استبدادي معادي للحرية كالأنظمة الشيوعية السابقة مثلا، فإنه سينكر حرية العقيدة كما ينكر سائر الحريات الفردية الأخرى، مما يؤدي لإضعاف العقائد الدينية والتضييق على المؤسسات الدينية، وإذا استخدمها نظام ليبرالي يقدس الحريات الفردية السياسية والدينية والاقتصادية مثل الأنظمة الليبرالية في أوروبا وأمريكا، فحينها تنتعش الحرية في كل مجالات الحياة، ويتمتع المواطنون بحرية التعبير، وحرية المشاركة السياسية، وحرية النشاط الاقتصادي، وحرية ممارسة العقيدة الدينية.
كما يؤدي النظام العلماني خدمات جليلة للمؤسسات الدينية، فهو يعتقها من سيطرة المؤسسة السياسية، ويمنحها بحكم القانون الاستقلالية الكاملة في شئونها الإدارية والمالية والدعوية، مما يعيد ثقة المؤمنين فيها ويؤدي لازدهار هذه المؤسسات وازدياد قدرتها على الدعوة والتبشير.
ولعله من العار أن يرى العالم مشايخنا يطالبون بتدعيم مبادئ النظام العلماني في الهند والصين ودول أوروبا وأمريكا من أجل حماية حقوق الأقليات الإسلامية في هذه البلاد، ثم نتنكر للعلمانية في بلادنا لمجرد أننا نشكل أغلبية عددية.
هذه هي العلمانية، أو الدولة المدنية التي تهاجم ليل نهار من الأنظمة الاستبدادية ومن رجال الدين، لأنها تقضي على الاستبداد السياسي والديني، وتفصم عرى الزواج غير الشرعي بين رجال الدين والسلطة، وتمنع المشايخ والكهنة من العمل في بلاط السلطان، وتخلق مجتمع الحرية والعدالة والمساواة، مما يتعارض مع مصالح هؤلاء ورغباتهم في التسلط والسيطرة وجني الثروات.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com