بقلم : فاروق عطية
سئمت الحديث عن السياسة وأهل السياسة. قلت في عقل بابي قاتل الله السياسة وما بها من نفاق وألاعيب وخِسّة، خاصة إذا امتزجت وتزاوجت بالدين حيث تتحول السياسة إلى كارثة وهو ما حدث خلال العام الأسود الذي عشناه في عهد المعزول ـ القصير المدّة الذي مرّ علينا كأنه دهر طويل ـ من كثرة ما عانينا من أزمات متلاحقة، أزمات وحّدت شعب مصر وجعلتهم جميعا يقفون في طابور الفقر والحاجة، فتلاشت الطبقات وأصبحنا طبقة واحدة معدمة إلا مَن كان في عداد الهلّيبة والأونطجية وتجار الدين والراقصين في كل مولد ولاعبي الكرة ونشاز المطربين وربات العهر والفجور وغيرهم من الأفاقين والانتهازيين. سئمت الحديث عنن الثورة والثوار بعد أن اكتشفت الزيف، قمنا بفورة 25 يناير 2011 بتخطيط مُمَنهج من الـ آر سي إيه وعملائها مصريين كانوا أو مندسين وعند ما أتت أكلها امتطت الجماعة المحظورة الركوبة واعتلت عرش مصر العظيم الذى اعتلاه أعظم الفراعين وملوك أسرة محمد على وجماليك الضباط وآخرهم المخلوع. حاول الإخوان تحطيم الدولة العميقة بشتى الطرق بمحاولة القضاء عل الجيش بعد التخلص من قوة الشرطة ومباحث أمن الدولة، كما تحدوا القضاء والإعلام والمعارضة وأسرعوا في أخونة الدولة حتى تدين لهم كما قالوا لمئات من السنين. وفى 30 يونيو 2013 فورة جديدة خططت لها الدولة العميقة بقيادة أحمس مصر الجديد الفريق أول عبد الفتاح السيسي لاسترداد الدولة من مغتصبيها واستجاب لها الشعب بالملايين وأتعشم إعادتها للطريق السليم دولة علمانية مدنية منفتحة على العالم أجمع يتمتع رعاياها بالمواطنة الكاملة دون تمييز.
قررت أن آخذ فسحة لالتقاط الأنفاس ورحت استعرض شريط ذكريات الزمن الجميل، أيام الصبا والشباب من بداية الاربعينيات وأتحسّر على أيام جميلة ليتها تعود ولكنها أبداً لن تعود لأن الزمن لا يتوقف أو يعود وعلى رأى ثومة حين تصدح قائلة "عايز الزمان يرجع زي زمان قول الزمان ارجع يا زمان" ولكن هيهات فألذى وللي لا يمكن أن يعود. أتذكر أن الناس فى الأربعينيات كانت تعتبر الأسعار مبالغ فيها وأن سبب ذلك يرجع للحرب العالمية الثانية التى انتهت ولكنها خلفت دمارا تبعه ارتفاع أسعار بعض السلع، وبالرغم من ذلك فقد كانت الأسعار ثابتة ولم تتعير منذ بدأنا أطفالا نتعامل بالشراء حتى قيام حركة الضباط في بداية الصبا والشباب. كانت بعض السلع شحيحة وتوزع بالبطاقات مثل الكيروسين والسكر وبعض الأقمشة الشعبية كالكستور والدبلان والزفير. وكان الفرق بين سعر السلعة بالبطاقة وسعرها الحر لا يتجاوز بضع قروش، مثلا كانت أقة السكر الحر 3.5 قرشا وبالبطاقة 2.5 قرشا، وكان لتر الكيروسين بقرش واحد وعلى كل بطاقة عدد من كوبونات الكيروسين يخفض السعر إلى خمس مليمات للتر. كُنت فى بداية الاربعينات تلميذا بالمدرسة الابتدائية وكان اليوم الدراسى سبع حصص يومية يتخللها فسحتان، فسحة صغيرة ربع ساعة بعد الحصة الثالثة وفسحة كبيرة مدتها ساعة بعد الحصة الخامسة. وكان مصروفي اليومي الذي كان يحسدني عليه الكثير من التلاميذ قرشا كاملا، كنت أنفق نصفه فى الفسحة الكبيرة بشراء سندوتش طعمية ساخنة وباذنجان مقلى مع السلطات نصف رغيف مليئ من الصعب على طفل مثلى أن يأكله فكنت أقتسمه مع صديق يعطينى بعض الحلوى فى المقابل. وكنت أشترى بنصف مليم لب ونصف مليم حمص وسودانى للتسلية ويتبقى معى أربعة مليمات كاملة أقتصدها حتى يتكون عندى مبلغ كبير كخمسة قروش لاشترى كرة قدم ألعب بها مع الأتراب. كنا نشترى ثلاث بيضات بقرش ورطل اللحم بقرشين وأقة السمك من أفخر الآنواع بقرش ونصف، وكان لتر اللبن بخمس مليمات، ورطل الزبد البلدى بقرش. وكان إيجار البيت من بابه أو الشقة المتسعة ثلاث عرف نوم بخمسين قرشا شهريا ورغيف العيش البلدى اللذيذ الطعم وجيد الصنع بنصف قرش وكان يوجد منه أنواع عديدة منها الطرى والملدن والمفقع والمحمص ويتبارى أصحاب المخابز فى توصيل الخبز للمساكن، وكانت الفاكهة والخضروات تباع بالشروة وليست بالميزان مقابل مليمات أما البلح فكنا نشتريه بطرح النخلة بما لا يزيد عن الخمسة قروش.
وكان الجنيه المصري يساوى مائة قرشا والقرش يساوى عشرة مليمات والمليم يساوى برونزتين، وكان الجنيه المصري عملة محترمة بل سيد العملات، تفوق سطوته عملات دول العالم الكبرى فقد كان الجنيه الاسترلينى الذهب يساوى 97.5 قرشا والدولار الأمريكى يساوى 20 قرشا. وكانت العملة المصرية الورقية ذات فئات مختلفة أكبرها الورقة ذات المائة جنينه، والورقة ذات الخمسون جنيه والجنيه المصرى الأخضر اللون ثم نصف الجنيه وربع الجنيه وعشرة قروش وأصغرها الخمسة قروش. أما العملات المعدنية فكانت كالآتى: عملات فضية من الفضة الخالصة وهي الريال (20 قرشا) ونصف الريال وربع الريال وأصغرها عملة ذات القرشين، وهناك العملات المعدنية من النيكل وهي القرش ونصف القرش (التعريفة) ونصف التعريفة (عشرة فضة) والمليمين (النكلة)، أما العملة النحاسية فكنت المليم ونصف المليم (البرونزة) وحدثنا الأجداد عن السحتوت وهو واحد على عشرين من المليم. وكانت العملات المعدنية كالقرش والتعريفة باسم السلطان حسين والملك فؤاد والملك فاروق ومنها العملات المخرومة والغير مخرومة. وفى مرحلتي الطفولة والصبا لم أتشرف بالتعرف بفخامة الجنيه ولم التق به وجها لوجه إلا فى مرحلة الدراسة الجامعية، فقط تعرفت على العملات المعدنية من الفئات الصغرى أكبرها لا يتعدى العشرة قروش.
ظلت الأسعار ثابتة لا تتغير منذ الأربعينات حتى منتصف الخمسينات بعد قيام حركة الضباط. وبدأ الارتفاع التدريجى للأسعار فى منتصف الخمسينات وكان سبب ذلك تشدق عبد الناصر برفع أجور العمال فى كل عيد من أعياد الثورة دون دراسة أو إيجاد موارد للصرف على هذه الزيادات غير التضخم التمويلى بطبع المزيد من العملات بدون أن يقابلها أرصدة حقيقية. وللحقيقة فقد كانت الزيادة فى الأسعار غير كبيرة وغير متلاحقة بالصورة البشعة التى نراها هذه الأيام وذلك لأن الدولة كانت تدعم الأسعار بالاستدانة والقروض حتى لا يحس المواطنون بهذه الفروق، وعندما انتهت الحقبة الناصرية ورث السادات إرث مثقل بالديون. والبداية الحقيقية لتوحش وجنون الأسعار كانت بعد الهزيمة المرة فى 1967 حين بدأت العمالة المصرية فى الهجرة حيث يوجد الرزق فى بلاد النفط لدويلات الخليج والعراق ويعودون بوفرة المال التى تمكنهم من قدرة الشراء حتى قيل إنهم السبب في غلاء المِش على الطبقات المطحونة. وازدادت الأسعار توحشا بالانفتاح الغير مخطط فى عصر السادات وظهور مافيا التوكيلات وسماسرة التجارة وحيتان توظيف الأموال، وزاد غول الغلاء توحشا فى عصر بسلامته (المخلوع) وسيطرة الحزن الوطني على مقدرات شعب أعزل مهيض الجناح تطحنه الأمراض والجهل وتمسك بتلابيبه عوامل الفقر وكثرة العيال وقلة الحيلة والبركة فى مجلس سيد قراره المليء بنواب القروض ونواب المخدرات والقمار والتهريب وماصى دماء الشعب من نمور وحيتان وصقور وغيلان.
بعد فورة 25 يناير بشرنا الموكوس بالنهضة التي سوف تحل كل مشاكل مصر المزمنة في 100 يوم، وبعد الاستيلاء على السلطانية نام في العسل وتناسى كل الوعود، واتضح أن طائر النهضة دكر لا يلد ولا يبيض. وتوالت الأزمات من انقطاع المياه والكهرباء لعدم توافر البوتاجاز والسولار والبنزين، وتغول الغلاء لدرجة غير مقبولة ليطحن بلادنا الحبيبة ويكتوى بناره أبناؤنا وأهالينا هناك بأرض الكنانة. وعلي سبيل المثال صل سعر الكيلوجرام من اللحم إلى 75 جنيها ومنتظر أن يصل قريبا إلى 100 جنيه، أي أن سعره فى مصر ثلاثة أضعافه في كندا أو يزيد برغم الفرق الهائل في مستوى المعيشة والأجور بين مصر وكندا. وأتعشم بعد الأحداث الأخيرة أن تتبدل الأحوال ويعتدل الميزان وتتقلص الفجوة الرهيبة بين الدخول حتى يحس المواطن المصري بالتغيير والاستقرار.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com