الأقباط متحدون | نسيج الألم (قصة قصيرة ) كتبت 7/10/89 وعدلت 27/9/91
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ١٢:٣٦ | الجمعة ١٩ ابريل ٢٠١٣ | ١١ برمودة ١٧٢٩ ش | العدد ٣١٠١ السنة الثامنة
الأرشيف
شريط الأخبار

نسيج الألم (قصة قصيرة ) كتبت 7/10/89 وعدلت 27/9/91

الجمعة ١٩ ابريل ٢٠١٣ - ٢٣: ٠٢ م +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم : محمد حسين يونس
في صباح يوم دافىء من ايام الشتاء الذى تلى نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة – عندما كان بوسع النساء ان يجلسن منفردات فى الحدائق العامة النظيفة مع اطفالهن يرقبنهم وهم يلعبون ويشغلن أنفسهن بأداء بعض الفنون اليدوية المحببة لهن – اصطحبتنى والدتى الى حديقة قريبة من منزلنا .. وسُدتنى مهداً صغيراً مصنوعاً من البامبو ومحلى بشرائط الدانتيلا البيضاء .. وغطت سقفه بغلالة رقيقة من الشيفون الازرق السماوى لتمنع تطفل الذباب على وجهى .. ثم جلست فى سلام تنعم بأشعة الشمس وتنسج ثوباً صوفياً ،كانت قد اعتزلت مهنتها كمدرسة – منذ ولادتى – لتعتنى بى .. وكانت تؤدى هذا بسعادة لا يمكن تصورها إلا إذا نظرت الى عينى أم وهى ترضع صغيرها ، فاصبحت طفلاً مورد الوجنتين موفور الصحة نظيفاً .

مرت بجوارنا أجنبية استرعى انتباهها المهد والطفل فوقفت تتأملنى لبرهة ثم قالت بلغة عربية يغلب عليها الرطانة الاجنبية : ولد حلو كتير .. بس يا خسارة محكوم عليه بالاعدام. إنزعجت امى من تلك المتطفلة ولكنها – فى ذلك الوقت – لم تكن تستطيع لها شيئا اكثر من إبعادها برفق عن المهد .

بلغت السابعة من عمرى .. كنت قد انهيت عامى الدراسى بنجاح فسافرنا الى الاسكندرية لنقضى جزءاً من الصيف على شاطىء قريب من " المنتزه" كنت ألهو بالرمل الناعم .. اصنع منه قصوراً صغيرة سرعان ما تجرفها الأمواج فأبنى – بدون كلل – غيرها،كانت امى تجلس فى ظل مظلة شاطىء واسعة ملونة ترقبنى وهى تطرز قطعة قماش حين توقفت بجوارى العجوز الاجنبية .. وضعت كفها فوق رأسى .. داعبتنى ثم قالت ببرود : ولد حلو كتير .. بس ياخسارة .. محكوم عليه بالاعدام،لم تطق أمى صبراً فانتفضت من مجلسها امسكت بتلابيبها بغلظة ثم طالبتها بتفسير .. أجفلت الأخرى ثم اشارت لجبهتى وقالت : انت زعلان يا مدام .. علامة الاعدام أهى .. مش شايفها ؟ ،لم تكن امى من تلك السيدات اللائى يؤمن بمثل هذه الخرافات ومع ذلك استشارت شيخاً جليلاً ممن وهبهم الله بعضاً من علمه فقال : اننا جميعاً أموات ابناء اموات نتحرك على ساقين وان الحياه لا يعرف سرها إلا فاطرها .

مرت الايام ونست امى كل ما حدث . ولكن عندما حصلت على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية (القديمة) غطت غلالة ترابية كثيفة سماء وادينا ومنعت الرؤية .كنا فى الشارع فهرولت وامى بين الجموع المذعورة نبحث لنا عن ملجأ . كنت قد كبرت بما يكفى ، لأن أجرى بجوارها على غير هدى حين استوقفتنا العجوز وقالت باسمة رغم الضائقة : إنت خايف من ايه يا حبيبى ؟ ابنك المحكوم عليه بالاعدام ، مش إنت .

بعد ذلك بخمس سنوات وفى احتفال تسليم اوائل طلاب شهادة الثانوية العامة جوائزهم قال الرجل المهيب ، وهو يربت على وجنتى بأننى محظوظ ، لأن تفوقى هذا قد جاء فى العصر الذى انزاحت فيه العقبات من امامنا ، وأن كل المقدمات تؤكد قدرتى على شق طريقى بهدوء ، لأصبح  أحد أعلام الانسانية ،ابتسمت والدتى بفخر ، ولكن العجوز ظهرت فجأة وهمست فى أذنها قائلة :ايه ده .. الولد محكوم عليه بالاعدام نظرت امى لها بغيظ ، ولم ترد ، انما التفتت لى وقالت : كذب المنبئون ولو صدقوا

التحقت بكلية الآداب ، وتوالت الآعوام سريعاً حتى حصلت على الليسانس..كنت دائماً الأول، فعينت معيداً، وفى اليوم الذى تسلمت فيه عملى الجديد، إهتزت الأرض ، وزلزلت زلزالها فأنهارت أبنية عديدة كنا نتصورها راسخة ، وفقدت السيطرة على نفسى ، وسقطت فى شق عميق . تجمع أعلاه من يسبوننى بأقذع الألفاظ مدعين أن شؤمى قد سبب ما حدث وبسرعة شونوا الحجارة على حافة الخندق، وتجمعوا حولها يفحصونها بتأنى يستبعدون الضخم منها حتى لا ينتهوا منى بعد قذفة أو قذفتين، وينحٌون باحتقار الصغيرة جانباً لأنها لن تؤثر،كان رئيسهم ينظر لى بتشف واضح وهو يصدر تعليماته ، وكان قلبى يدق بعنف وينتفض من فعل الدماء المتدفقة منه لعروقى، والعرق يتصبب غزيراً من مسامى وهم يرفعون سواعدهم بالحجارة لرجمى، لقد تحققت النبؤة ولكن صوتها جاء آمراً إياهم :لا.لاياحبيبى .. لسة وقتة ماجاش.

حصلت على الدكتوراه ، أصبحت أستاذاً فى الفلسفة ، وعندما وفقت بين طلبتى أحاضرهم عن التناقضات الميتافيزيقية فى جدل هيجل، علا صراخهم واستطالت ذقونهم واسودت وجوههم وثاروا حتى حضر من ينصحنى بأن أتفق مع الضابط المسئول ليختار سيافاً ماهراً ، وأن أرشو هذا السياف لينهى مهمته بضربة واحدة ، ثم عرض على أن يقوم بهذه الاتفاقات نائباً عنى لو أننى أوصيت له برأسى التى أعد لها وعاءاً مرمرياً فاخراً سيزين به مكتبه ليتأملها كل صباح ،ولكنها خرجت من بين الصفوف، وقفت بينى وبينهم حمتنى بجسدها وقالت: لا: لا يا حبيبى .وقته لسه ماجاش.

تقاعدت عن التدريس بعد أن قالو لى أن ابحث عن وظيفة يحتاجها المجتمع، واقترحوا جامعاً أول للقمامة ، أو سمساراً تحت التدريب، أو مضحكاً لسكرتير ملك ، أو حاملاً للريشة القلاوونية أخط بها مآثر التكية النورانية.

قالت أمى مستسلمة: وما فى ذلك يابنى ألن تكسب أكثر؟.قلت: بالدولار والاسترلينى.فقفزت واقفة تزغرد وأمسكت بمبخرتها "ترقينى" وتردد اسم الله ،يحفظنى من العين.

ولكن العجوز كان لها رأى آخر حاولت إقناع أمى به اذ قالت:لماذا لا يعمل جاسوساً أو عميلاً. هذا أفضل سيكسب أكثر.ثم وضعت رأسى بين ثدييها وفمى على مصادر رحيقها وغرزت أظافرها فى منابت شعرى. عندما دفعتها مبعداً إياها وقفوا أمامى فى طابور منتظم مشرعين بنادقهم وأطلقوا منها فى اتجاهى قطعا صغيرة من النار اخترقت كاحلى فالساقين فالفخذين فالبطن وعندما صاح قائدهم : فى سويداء القلب.
أشارت إليه فتوقف وقالت: لا.. لا يا حبيبى.. مش كدة .. لسه ماجاش وقته.

أصبحت كهلاً قال أستاذى الذى يشاركنى زنزانتى لأنه رفض تطبيق الشريعة، وهو ينظر لسقفها المفتوح فاحصاً: هذه علامات الساعة إنهم يوسعون من ثقب الأوزون، وستذيب الأشعة المتسربة منه كل شىء حتى الحجر.قلت: أهذا هو حكم الاعدام؟.قالت: لا.. لا يا حبيبى.. علامتك لسه منورتش.
ولكن تسربت الأشعة فعلاً فأذابت جدران الزنزانة، وأذابتنا فتوحدنا معها . وأصبح من الصعب التفرقة بين مقعدة كلانا والبلاط ، أو هيكلنا العظمى والهيكل الخرسانى.

بعد الفى عام عندما اكتشفوا الحفرية ، ، قال القادم من الكوكب البعيد: عاش هنا كائن قدّ جسده من أديم الأرض، وقد لايكون له عقل.فصحت منبهاً اياه: لا لقد كان لى عقل، صنع من نسيج الألم، ضفرته أمى على مهل ، فى الفترة ما بين صباح يوم مشرق من الشتاء الذى تلى الحرب العالمية الثانية، وحتى ظهر يوم حار من أيام بدايات القرن الحادى والعشرين،.فتوهجت العلامة التى على جبهتى.،وقذف القادم الغريب الحفرية بقرف قائلاً:- هذه النفايات لابد من إعدامها فهى بالغة الضرر.
 




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
تقييم الموضوع :