الأقباط متحدون | نحو علاقة عراقية-أمريكية متكافئة
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ١٩:٤٠ | الأحد ٣ مارس ٢٠١٣ | ٢٤ أمشير ١٧٢٩ ش | العدد ٣٠٥٤ السنة الثامنة
الأرشيف
شريط الأخبار

نحو علاقة عراقية-أمريكية متكافئة

الأحد ٣ مارس ٢٠١٣ - ٢٦: ٠٩ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم : د.عبد الخالق حسين
توضيح
في أوائل شهر كانون الثاني من هذا العام، استلمت دعوة كريمة من (المجموعة العراقية للدراسات الإستراتيجية)، لحضور مؤتمر بعنوان ((نحو بيئة اقليمية آمنة)) للفترة من 23 - 24  شباط فبراير-2013  فى بغداد. وقد أعد الأخوة منظمو المؤتمر قائمة من المحاور وتركوا لي الخيار في اختيار المحور الذي أود التطرق إليه. فاخترت محور (الـدور الأمريكي والأوروبي المستقبلي في المنطقـــــة وتأثيره في العلاقات البينية لدولها). ولكن مع الأسف الشديد، ولأسباب شخصية خارجة عن إرادتي، لم استطع حضور المؤتمر الموقر، وقبل الأخوة الأعزاء اعتذاري مشكورين. وعليه، أقدم مداخلتي هنا كمقال، متمنياً أن تصل الفكرة إلى من يهمهم الأمر.

علاقة العراق بالغرب معقدة جداً، بين مد وجزر، مرت بأزمات شديدة، شابتها مشاعر العداء في أكثر الأحيان، منذ الحرب العالمية الأولى وإلى الآن. وللعداء مع الغرب أسباب عديدة، منها التاريخ الاستعماري، وتحيز الغرب لإسرائيل في الصراع العربي- الإسرائيلي، وتفشي الأيديولوجيات الثلاث: الشيوعية، والقومية والإسلامية. فرغم العداء المستفحل بين هذه الأيديولوجيات التي ساهمت في تمزيق الولاء الوطني، إلا إنها متحدة في عدائها للغرب الرأسمالي الديمقراطي، وبالأخص ضد أمريكا التي في نظرهم تمثل الشر المطلق، وحتى صار العداء لأمريكا وحليفتها بريطانيا شرطاً للوطنية، والمطالبة بعلاقة جيدة معهما مرادفة للعمالة والخيانة الوطنية!.

ولكن، في السياسة لا توجد عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة، بل هناك مصالح دائمة. فبعد المظالم التي لحقت بالشعب العراقي على يد نظام البعث الفاشي الجائر، وحروبه العبثية، الداخلية والخارجية، تأكد لنا، ولو بعد فوات الأوان والخراب الشامل والتشرد، أن الدول الغربية هي التي مدت يد العون للعراقيين المشردين، وآوتهم، ووفرت لهم الأمان والعيش بكرامة، وكانت أمريكا هي التي قادت التحالف الدولي لتحرير الشعب العراقي وخلاصه من ذلك النظام الفاشي.

وبغض النظر عن مقاصد أمريكا في تحرير العراق، إذ بات مؤكداً لدى الجميع أن الشعب العراقي ما كان بمستطاعه التخلص من هذا النظام بقواه الذاتية، وقد حاول مراراً انتهت محاولاته بقتل مئات الألوف ومئات المقابر الجماعية، وتشريد الملايين في الشتات، إذ كان حزب البعث أو العبث الصدامي مستعداً للقضاء على الشعب كله في سبيل البقاء في السلطة، لذلك أطلق صدام قوله المشهور: "من يحكم العراق من بعده يستلمه خرائب بلا بشر."

مازال البعض يبرر العداء لأمريكا بأن أمريكا هي التي أسست حزب البعث، وهي التي جاءت به إلى السلطة، وعملت كذا وكذا. وهذا صحيح، ولكن كان ذلك في زمن الحرب الباردة، والصراع العنيف بين المعسكرين، الشرقي، الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والغربي، الرأسمالي الديمقراطي بقيادة أمريكا. وصار العراق ضحية في هذا الصراع. ولكن تبدلت الأحوال، وانقلب السحر على الساحر، فوجدت أمريكا أن من مصلحتها التخلص من حكم البعث بعد أن بات يشكل خطراً على مصالحها في المنطقة. لذا فمن الحكمة أن نستفيد من أمريكا في حالة توافق مصالحها مع مصالح شعبنا، وهي القضاء على نظام البعث الفاشي الجائر حتى ولو بمساعدة أمريكا التي جاءت به من قبل، وإلا نبقى نعاني من الجور والجوع والضياع في الشتات إلى أجل غير معلوم، بذريعة أننا لا نريد الخلاص بدعم أمريكا. فالحكمة تفيد: إذا كان بيتي يحترق، لا تهمني هوية فريق الإطفاء، بل ومن الجنون أن أرفض هذا الفريق لأنه من أمريكا.

قالوا أن أمريكا عملتْ ذلك للهيمنة على نفط العراق، وليس لسواد عيون العراقيين!. وجوابنا هو: هل أمريكا تريد النفط بلا مقابل، أم تشتريه بسعر السوق الذي قفز عدة أضعاف بعد تحرير العراق، وليس لأمريكا أي دور في تحديده، بل يتحدد سعر برميل النفط وفق مبدأ السوق: (العرض والطلب"؟
 ثم ماذا يفعل العراق بنفطه إن لم يبعه على أمريكا وغيرها؟ فخلال 13 سنة من الحصار، عم العراق الخراب الشامل، وألوف العراقيين صاروا طعاماً للأسماك لأنهم فضلوا الفرار، ومخاطر البحار على البقاء ليموتوا جوعاً وذلاً وقهراً في عراق البعث.

أمريكا ساهمت مع الحلفاء في تحرير أوربا من النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية التي كلفت الشعوب الأوربية نحو 55 مليون ضحية، وعشرات المدن سويت بالأرض. فالحرية ليست بلا ثمن. وكذلك حررت أمريكا اليابان من الفاشية العسكرتارية، وقصفت أمريكا اليابان بالقنابل النووية، ومازالت قواعدها العسكرية متواجدة فيها، ومع ذلك هناك علاقة حميمة بين اليابان وأمريكا. ومن ثمار هذه العلاقة أن صارت اليابان من أغنى الدول في جميع المجالات. وكذلك حررت أمريكا كوريا الجنوبية، ولنقارن بين كوريا الجنوبية والشمالية، فأيهما أفضل؟

قد يعترض البعض أنه لا توجد في هذه الدول صراعات سنة وشيعة، ولا كرد وعرب..الخ. فإذاً، في هذه الحالة، الخطأ مما يجري في العراق سببه ليس أمريكا، بل الخطأ في الشعب نفسه الذي تمسك بالصراعات الطائفية والعرقية على حساب المصلحة الوطنية. فأمريكا حررت الشعب العراقي من جور البعث الفاشي وتركت له المجال ليختار حكامه بإرادته الحرة في نظام ديمقراطي حر. وهذا موضوع طويل تطرقنا إليه عشرات المرات. وإننا نعتقد أن هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها العراق من صراعات هي حتمية لا مناص منها، ولكن في نهاية المطاف لا بد وأن يعود السياسيون إلى وعيهم ورشدهم، وسيدركون أنه لا بد من التعايش معاً بسلام بعد أن يتمرنوا على الديمقراطية ويتعلموا قواعدها. فبعد عشرات السنين من دكتاتورية البعث، من المستحيل القفز إلى ديمقراطية ناضجة بين عشية وضحاها.

ولم تكتفِ أمريكا بتحرير العراق من الفاشية، بل وعملت على تخفيف ديونه البالغة نحو 120 مليار دولار، إضافة إلى مئات المليارات من تعويضات الحروب العبثية، والتي كبله بها نظام البعث والعبث. فشكل الرئيس جورج دبليو بوش وفداً برئاسة جيمس بيكر، وزير الخارجة الأسبق، الذي قام بجولة في عواصم البلدان الدائنة، ونجح في تخفيض الديون بنحو 90%، وهذا نصر عظيم للعراق بجهود أمريكا.
 
وعليه، أعتقد أن العراق بحاجة ماسة ومصيرية إلى علاقة متكافئة بعيدة المدى في إطار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بين البلدين عام 2011، وتفعيلها والاستفادة منها إلى أقصى حد على أسس المصالح المشتركة بين دولتين ذات سيادة كاملة. فالعراق غارق بمشاكل متراكمة عبر قرون، وبالأخص ما ورثه من مخلفات البعث، وليس بإمكان حكومته حلها دون دعم خارجي ومهما بلغ المسؤولون من دهاء وخبرة وإخلاص.

بعض الأسباب الملحة لعلاقة حميمة مع أمريكا
أولاً، بعد عشرات السنين من سياسة البعث (فرق تسد)، هناك أزمة ثقة وصراعات طائفية وأثنية وقبلية على السلطة والثروة. وإذا كانت هذه المكونات ساكتة نسبياً قبل 2003، فلا يعني ذلك أنها كانت راضية ومقتنعة بنصيبها وحظها العاثر، وإنما كانت مرغمة على السكوت بسبب شراسة قمع دكتاتورية المكونة الواحدة. وفي الحقيقة كانت تحصل انفجارات بين حين وآخر، والثورة الكردية كانت دائمة. أما في النظام الديمقراطي فالكل وجد الفرصة متاحة له ليتظاهر ويصرخ أين حقي، وليس بإمكان الحكومة الديمقراطية إسكات الناس من حق وفره لهم الدستور.

ثانياً، الملاحظ أن كل كتلة  سياسية تستقوي بحكومة أو حكومات أجنبية لتدمير الدولة والمكونات الأخرى لتحقيق مآربها. كما وبات معروفا أن إثارة هذه المشاكل والصراعات وراءها مؤسسات وحكومات خارجية في المنطقة مثل تركيا والسعودية وقطر، تعمل على إبقاء العراق مفككاً وغارقاً في مشاكله، وعاجزاً عن تحقيق الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي. فالعراق مليء بالألغام، وبإمكان هذه الدول تفعيل وتفجير هذه الألغام الطائفية والأثنية في أي وقت تشاء، كما هو حاصل الآن في المناطق الغربية.

ولا أستبعد أن تكون لأمريكا يد في هذا التأجيج الطائفي. فأمريكا دولة مؤسسات، وبعض هذه المؤسسات ليست بالضرورة تعمل بعلم وأوامر مباشرة من الإدارة، قد تعمل على خلق المشاكل للحكومة العراقية كتحذير لها أنهم بإمكانهم وضع العراقيل أمامها ما لم تكن على علاقة جيدة مع أمريكا. إذ لا يمكن لتركيا والسعودية ودويلة صغيرة مثل قطر، السائرة في ركاب أمريكا، أن يخلقوا كل هذه المشاكل للعراق بدون ضوء أخضر من أمريكا.
وعلى سبيل المثال، المشاكل التي خلقتها الكويت للعراق، مثل إبقاء العراق مكبلاً بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة رغم زوال الأسباب، وكذلك بناء ميناء المبارك في خور عبدالله لخنق الموانئ العراقية، والمشاكل التي أثارتها ضد الخطوط الجوية العراقية، والتجاوزات على الأراضي العراقية... وغيرها كثير... أقول لا يمكن للكويت وغيرها من دول المنطقة خلق هذه المشاكل للعراق بدون موافقة أو حتى بإيعاز من أمريكا.

نعم، أمريكا حريصة على إنجاح الديمقراطية في العراق لأن هذا النجاح يتعلق بسمعتها، ولكن في نفس الوقت هي أكثر حرصاً على مصالحها في المنطقة من مصلحة العراق، لذلك تريد علاقة حميمة مع العراق وفق المصالح المشتركة. لذا، فبإمكان العراق التخلص من معظم هذه المشاكل بكسب أمريكا إلى جانبه، ولا أعتقد أن ذلك يخدش من سيادة العراق، بل العكس هو الصحيح، فإبقاء العراق ضمن الفصل السابع هو الذي يجعل السيادة منقوصة.

قبل أيام عممت على أصدقائي ومعارفي مقالاً بعنوان (لماذا ايران فوبيا، وليس إسرائيل فوبيا؟)(1) للكاتب السيد مروان الجنابي، فبعث لي أحد الأصدقاء تعليقاً قال فيه: ((اسرائيل عزيزة على الغرب و خاصة أمريكا بغض النظر عن الأسباب. فالذين يجاهرون بعدائهم لإسرائيل هم الشيعة فقط ممثلين بإيران و حزب الله و مقتدى الصدر. في المقابل، الحكومات السنية لهم علاقات علنية او سرية مع إسرائيل، مع ان الفلسطينيين سنة. و بهذا كسبوا رضى الغرب. إن معاداة ايران لإسرائيل لا نفع منه وعلى العكس، فيه كل الضرر. فلو غيرت ايران و نصر الله و مقتدى موقفهم من اسرائيل لتغيرت سياسة الغرب العدائية نحو الشيعة.))

لا شك في صحة هذا القول، فهو صحيح في رأيي مائة بالمائة. والدليل على ذلك، أن في عهد الشاه، استولت الحكومة الإيرانية على ثلاث جزر إماراتية، ونصب الشاه نفسه شرطي الحراسة على الخليج، فأرسل قوات مسلحة لحماية عُمان (مسقط) من ثورة ظفار الماركسية، وكل هذه الأعمال لم تحرك ساكناً من قبل الدول العربية، ولم تثر أية ضجة طائفية ضد الشيعة، رغم أن الشعب الإيراني كان شيعياً أيضاً في عهد الشاه!!، بل سكتوا عن كل ذلك لأن الشاه كان على علاقة حميمة مع أمريكا، ومع إسرائيل، وحتى كانت لإسرائيل سفارة في طهران. ولكن بعد الثورة الإيرانية طردت الحكومة الإسلامية البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية لتحل محلها ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية. ولذلك كسبت إيران ليس عداء الغرب وأمريكا فحسب، بل وعداء العرب أيضاً، فسخروا صدام حسين لشن حرب جنونية على إيران، "لحماية البوابة الشرقية للأمة العربية من الفرس المجوس!!"، وقال الملك فهد لصدام يوم ذاك: "منا المال ومنك الرجال". وبعد سقوط حكم صدام حولوا كل تلك المساعدات المالية إلى ديون باهظة على الشعب العراقي مع فوائدها المتراكمة التي فاقت الديون الأصلية.

ثالثاً، قضية تكبيل العراق بالفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. المعروف أن أمريكا هي التي كبلت العراق بهذا البند عقاباً لصدام حسين عندما غزى الكويت يوم 2/8/1990. وعليه فأمريكا وحدها القادرة على إخراج العراق من هذا البند.
ولكن، وكما ذكرنا مراراً، أن أمريكا ليست مؤسسة خيرية، بل هي دولة كبرى تبحث عن مصالحها. لذا فقد أبقت العراق مكبلاً بهذا البند الجائر لتستخدمه عند الحاجة حسب موقف الحكومة العراقية منها في المستقبل. يعني أشبه بلعبة الشطرنج، فإذا حاولت الحكومة العراقية أخذ أي موقف ضد أمريكا، فأمريكا تمتلك سلاح البند السابع ضده، وتقول له:(كش ملك!). وإبقاء العراق مكبلاً بهذا الفصل يخلق مشاكل اقتصادية وسياسية كثيرة له، إضافة إلى المس بسيادته الوطنية. فمثلاً، قرأت مقالاً لخبير اقتصادي جاء فيه، أن الشركات الأجنبية لا تقبل أية مقاولة في العراق ما لم يضاف إلى التكاليف بنسبة 40% ، وهذا يسمى بـ(العامل العراقي) بسبب البند السابع. يعني إذا كان مشروع ما يكلف 100 مليون دولار في الأردن مثلاً، يكلف العراق 140 مليون دولار. لذا فيمكن أن نتصور حجم الخسائر التي تلحق بالعراق بسبب تكبيله بهذا الفصل وهو مقبل على الإعمار الذي يكلف مئات المليارت.

ومن هنا لا بد من علاقة جيدة مع أمريكا للتخلص من هذا الفصل. إذ كما قال الباحث الأستاذ خدر شنكالى عن قرارات الأمم المتحدة ضد العراق بعد غزوه للكويت، في مقال له بعنوان: (العراق والفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة): "ان جميع هذه القرارات قد صدرت ضمن الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ولازالت سارية المفعول تجاه العراق وان آثارها لا يزال يعاني منها الشعب العراقي. وان بقاء العراق تحت طائلة هذه القرارات والعقوبات المفروضة بموجبها، والتي لا مبرر لبقائها لحد الآن، بالتأكيد سوف يعرقل نموه الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والتكنولوجي وحتى العسكري ولا يستطيع ان يسترد عافيته وسيادته الكاملة، وان يكون عراقا حرا إلا بعد التخلص من تبعات الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة وبشكل كامل...".(2)

المفارقة أن معظم العرب والإعلام العربي يشتمون أمريكا ليل نهار، ويعيبون على العراق علاقته بأمريكا، إذ كشفت دراسة أن 80% من العرب يكرهون أمريكا ويناصبونها العداء، ولكن في نفس الوقت يتمنى 60% منهم الهجرة إليها والعيش فيها كما أظهر ذلك تقرير التنمية العربية للأمم المتحدة لعام 2002. وأنا أعتقد أن النسبة أكثر من ذلك بكثير، بل وحتى الحكام العرب أنفسهم يحلمون بالعيش في أمريكا. فلولا أمريكا لكان صدام يحكم الآن كل دول شبه الجزيرة العربية، ويمارس هوايته المفضلة في نشر المقابر الجماعية. [راجع مقالنا: لولا أمريكا،(3)]
وحتى الشيوعيون العراقيون، الأعداء التقليديون للغرب والرأسمالية "المتوحشة"، وفي عز الكتلة الإشتراكية،  كانوا يفضلون اللجوء إلى الدول الغربية على الدول الشيوعية.

المفارقة الثانية، أنه ليس الإعلام العربي وحده يعيب على العراق علاقته بأمريكا، بل هناك دول عربية مثل دولة قطر أو بالأحرى، دولة فضائية الجزيرة، القناة التي خصصت معظم برامجها للتأليب على أمريكا وعلى العراق الجديد. والحقيقة أن تأليب قناة الجزيرة القطرية على أمريكا هو تمثلية مفضوحة لذر الرماد في العيون، فعلى بعد أمتار من هذه الفضائية توجد لأمريكا أكبر قاعدة عسكرية. ونعرف أن حكومة قطر هي وراء إشعال الفتن الطائفية في سورية والعراق.

وللأسباب أعلاه وغيرها كثير، أعتقد جازماً، أنه لا يمكن للعراق أن يتغلب على مشاكله ويعيش بسلام واستقرار إلا بمساعدة الدولة العظمى. فالعراق بحاجة إلى أمريكا، وأمريكا بحاجة إلى العراق، وأمريكا ليست الشر المطلق كما يتصور البعض، وأنا أيضاً كنت أحمل هذا التصور الخاطئ في الماضي بتأثير الدعاية الشيوعية. ولي مبرراتي في تغيير موقفي من أمريكا ذكرتها في مقالات عديدة، أدرج رابط أحدها في الهامش(3). فلأمريكا الفضل في تحرير العراق، وإطفاء 90% من ديونه، والمساعدة في بناء جيشه وقواته الأمنية. لقد ترك البعث العراق خرائب وأنقاض، ويحتاج إلى عشرات السنين لإعادة بنائه، وشعبه منقسم على نفسه. لذا فالأولوية الأولى للحكومة العراقية هي مصلحة العراق وإعادة إعماره أولاً وأخيراً، وليس زجه في صراعات إقليمية ومعاداة أمريكا أو أية دولة أخرى.

كذلك، وكما ذكر سفيرنا في واشنطن، الدكتور جابر حبيب جابر في مقال له(4) أن من مصلحة البلدين بناء علاقة حميمة بينهما ضمن إطار الاتفاقية الإستراتيجية الموقعة بينهما عام 2011. فالعراق يستطيع أن يلعب دوراً إيجابياً لصالح أمريكا في المنطقة، وبالأخص مع إيران، إذ يمكن العراق أن يؤثر على إيران حول برنامجها النووي. والسؤال الملح هو: ماذا ستكسب إيران لو امتلكت السلاح النووي، والذي بسببه تعرضت إلى هذا الحصار الجائر، فبإمكان الحكومة الإيرانية أن تستفيد من تجربة صدام الذي كان يسعى لامتلاك السلاح النووي، وهو الذي صرح متباهياً أنه سيحرق نصف إسرائيل، وبالتالي أحرق الكويت والعراق، وانتهى في حفرة حقيرة.

والجدير بالذكر، أن هناك إشارات إيجابية من إدارة الرئيس أوبابا في اتجاه تخفيف التوتر في المنطقة. فإصراره على تعيين جاك هاغل (chuck hagel) وزيراً للدفاع، رغم اتهامه من قبل اليمين الأمريكي واللوبي الإسرائيلي "بعدم اقترابه بما يكفي من إسرائيل، وبسذاجته حيال الموقف من إيران"، فيه أكثر من إشارة إلى أن الإدارة الأمريكية تريد السلام في المنطقة وليس إشعال الحروب.

وختاماً، أتذكر، وأنا في مرحلة المتوسطة إثناء حكومة ثورة 14 تموز، وكان الشهيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب يحاكم المرحوم محمد فاضل الجمالي، رئيس وزراء سابق في العهد الملكي. وكنا نتابع المحاكمة من الراديو، فقال له المهداوي أنك عميل لأمريكا. فأجاب الجمالي: لا يا سيادة الرئيس، أنا لست عميلاً لأمريكا بل صديقاً لها لأني أعتقد أن مصلحة بلادي تقتضي علاقة جيدة مع هذه الدولة العظمى للإستفادة من إمكانياتها. وكان الجمالي هو أول سياسي عراقي يحمل شهادة دكتوراه من أمريكا، وقد تتلمذ على يد الفيلسوف الأمريكي المعروف جون ديوي. لذلك عندما صار رئيساً للوزراء في الأربعينات، حاول تطبيق الديمقراطية الليبرالية تدريحياً، ولكن نوري السعيد ورهطه من مخلفات العهد العثماني كانوا أقل من أن يستوعبوا هذه السياسة وفوائدها، ولولا إجهاض نوري السعيد لمحاولات الجمالي في دمقرطة العراق لما مر العراق بكل هذه الإرهاصات والكوارث، إذ كما قال الشهيد الزعيم عبدالكريم قاسم: "لو كنا نعلم أن هناك حلولاً سلمية للأزمة لما قمنا بالثورة".

مسك الختام، سيداتي وسادتي، لن يتمكن العراق من حل مشاكله المتراكمة لوحده وهو محاط بالأعداء، إلا بمساعدة أمريكا وذلك بقيام علاقة استراتيجية حميمة معها. فوظيفة السياسة تحقيق أكبر قدر من المصالح للشعب، وفق فن الممكن.
ألا هل بلغت، اللهم أشهد.




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :