السماء
بقلم: القس بيمن الطحاوى
السماء هي أملنا وهدفنا ومصيرنا الذي نرجوه، إليها تهفو قلوبنا، ونجاهد لأجل الوصول إليها والتمتع بأمجادها، ولا عجب في هذا فالإنسان أساساً مخلوق سماوي، السماء هي وطنه الأصلي، ومستقرة في النهاية، فقد اعد الله لمن عاشوا له ومعه في حب وأمانة في حياتهم على الأرض، أماكن راحة في السماء، حيث يحيون معه إلى الأبد.
وقد وجه الله أبصارنا إلى السماء من أول آية في الكتاب المقدس "في البدءِ خلق اللهُ السمواتِ والأرضَ" (تك1 : 1) ونلاحظ أنه قدم السموات على الأرض لسموها، كما تحدث عن السموات بصيغة الجمع، لأنه توجد حسب معتقد كنيستنا أكثر من سماء..
- سماء الطيور: وهى التي تسبح فيها الطيور والطائرات.
- سماء الفلك: وهى التي توجد فيها الشمس والنجوم والكواكب.
- سماء الأرواح: وقد أشار إليها القديس بولس وسماها الفردوس أو السماء الثالثة "أعرفُ إنساناً في المسيح قبل أربعَ عشرةَ سنةً. أفي الجسدِ؟ لستُ أعلمُ، أم خارجَ الجسدِ؟ لستُ أعلمُ، اللهُ يعلمُ. اُختُطفَ هذا إلى السماء الثالثة... أنهُ اختُطفَ إلى الفردوسِ، وسَمِعَ كلماتٍ لا يُنطقُ بها، ولا يسُوغُ لإنسانٍ أن يتكلمَ بها" (2كو 12 :2-4).
- سماء السموات: وهى سماء أعلى وأسمى من كل السموات السابقة، وهى التي صعد إليها السيد المسيح بالجسد بعد أربعين يوماً من قيامته، ويدعوها الإنجيل المقدس بـ"عرش الله" (مت5).
لكن مادام الله في كل مكان، فما معنى أن السماء هي عرشه؟ معنى ذلك أنها موضع مجده، وطاعته طاعة مطلقة وسريعة (فورية) "الفاعلينَ أمرهُ عندَ سماعِ صوتِ كلامهِ" (مز 103 : 20)، وموضع تنفيذ مشيئته، لذلك نقول في صلواتنا "لِتكُن مَشيئتُكَ كما في السماءِ كذلكَ على الأرضِ" (مت 6 :10).
في السماء سوف تتجلى طبيعتنا البشرية؛ فنقوم بأجساد روحانية نورانية، غير قابلة للفساد (1كو 15: 42-49) أجساد ممجدة "على صورة جسدِ مجدهِ" (فى 3: 21)، والروح أيضاً سوف تتجلى بالنقاء والصفاء والبساطة وتتكلل بالبر، ومعنى ذلك أن الله سينزع من قلوبنا ومن أفكارنا ومن ذاكرتنا كل ما يتعلق بالخطية والشر، ولا يبقى فى ذاكرتنا سوى البر فقط، ويكون لنا على الدوام ثمار الروح، ولسنا نعود فقط إلى بساطة وبراءة الإنسان الأول، بل إلى ما هو أسمى إذ لن يكون في إمكاننا أن نخطئ فيما بعد.
وفي السماء لن يكون الجميع في درجة واحدة، ولا على مستوى واحد من المجد، بل كما يقول الكتاب"لأن نجمًا يمتازُ عن نجمٍ في المجد" (1كو 15 :41 )، صحيح كل سكان السماء سيتمتعون بالنعيم الأبدي، ولكن كل واحد في درجته الخاصة، مثل قوارير مختلفة الأحجام، ولكن كلها ممتلئة فلا تشعر واحدة منها بنقص.
أما عن طبيعة الحياة في مدينة الله.. ففي السماء لن نجوع أو نعطش ولن نشعر بحر ولا ببرد "لن يَجُوعُوا بعد، ولن يَعطشُوا بعد، ولا تقعُ عليهم الشمسُ ولا شئ ُمن الحر" (رؤ 7: 16).
كما أن حياتنا في السماء لن يوجد فيها بكاء أو تنهد أو وجع أو مرض "ولا يَكونُ حُزن ولا صُراخ ولا وجع في ما بَعدُ، لأن الأمور الأولى قد مَضت" (رؤ21: 4).
في السماء لا توجد شهوات رديئة ولا ميول جسدانية ولا مشاعر سلبية كالتي كانت على الأرض، بل جسد ممجد روحاني، ومحبة نقية كاملة بين جميع سكانها، وهذا واضح من جواب السيد المسيح على السؤال الافتراضي الذي طرحه الصدوقيين بخصوص المرأة التي كانت متزوجة ولم تنجب من رجلها نسلاً، فتزوجت أخوته الستة الواحد تلو الآخر ليقيموا نسلاً لأخيهم حسبما تقتضى الشريعة اليهودية، وآخر الكل ماتت المرأة، وحينما سألوا المسيح في السماء لمن تكون المرأة زوجة لأنها كانت زوجة لكل الأخوة، كان جوابه: "في القيامة لا يُزوّجُون ولا يَتزوجُون بل يكونون كملائكةِ اللهِ في السماءِ" (مت22 :23-30).
في السماء لا وجود للجهل، ولن توجد ألغاز أو أمور مبهمة أو مسائل محيرة، بل معرفة دائمة ومتزايدة، فالله سيعرفنا كل شئ وسنرى به وفيه دقائق الأشياء، كما يقول بولس الرسول: "لأننا نعلمُ بعض العلمِ ونتنبأ بعض التنبؤِ. ولكن متى جاءَ الكاملُ فحينئذٍ يُبطلُ ما هو بَعض... فإننا ننظرُ الآن في مرآةٍ، في لغزٍ، لكن حينئذ وجهًا لوجهٍ. الآن أعرفُ بعض المعرفة، لكن حينئذٍ سأعرِفُ كما عُرِفتُ" (1كو 13: 9-12) فكل وقت يمر علينا في السماء سنعرف فيه شيئاً جديداً عن الله، ويكشف لنا عن ذاته بقدر ما نستوعب، لذلك قيل في الإنجيل "وهذه هي الحياةُ الأبديةُ: أن يَعرفُوك أنت الإلهَ الحقيقي وحدكَ" (يو 17: 3).
وفوق كل ما قلناه عن السماء ومجدها السماوي الذي هو أعظم من أن يُوصف أو يُدرك بعقولنا البشرية، هناك الله - تبارك اسمه - الذي سنعود إليه بعد غربتنا على الأرض، ونملك معه في مدينة الحياة إلى الأبد، في تلك المدينة التي لم تبن بأيدي الناس بل "صَانِعُها وبَارِئُها اللهُ" (عب11: 10) المدينة الرائعة التي تحرسها الملائكة وكل سكانها قديسون.
إن تأملنا في السماء يرفع مستوى تفكيرنا، ويجعلنا نعيش في جو روحي، وهكذا دعانا السيد المسيح أن نصلى ونقول: "أبانا الذي في السموات" (مت6: 9) بينما الله موجود في كل مكان، لكي نتذكر السماء باستمرار ونحيا مفكرين في السماويات.
لذا لنستعد للسكن في السماء موطنا الحقيقي بالسلوك بالروح، والتعلق بالروحيات ومداومة الصلاة والتغذية بكلمة الله، ومحبة الله ومحبة القريب كالنفس وهكذا ندخل في "مذاقة الملكوت"، فنعيش بجسدنا على الأرض بينما تكون حياتنا فوق في السماء، وهكذا نحيا الآية التي قالها الرسول: "غيرُ ناظرينَ إلى الأشياء التي تُرى، بل إلى التي لا تُرى. لأن التي تُرى وقتية، وأما التي لا تُرى فأبدية" (2كو4 : 18)، نسأل إلهنا أن يغفر لنا خطايانا، ويكتب أسماءنا في سفر الحياة وأن يكون لنا نصيب معه في أورشليم السمائية، آمين.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :