الأقباط متحدون | الجبر والاختيار
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٠:١٨ | الاثنين ١٠ اكتوبر ٢٠١١ | ٢٩ توت ١٧٢٨ ش | العدد ٢٥٤٢ السنة السابعة
الأرشيف
شريط الأخبار

الجبر والاختيار

الاثنين ١٠ اكتوبر ٢٠١١ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم : .راندا الحمامصي
يُخلق الإنسان وهو خاضع لهذين المفهومين، فهو من ناحية مسيّر ومن الأخرى مخيّر. مثلا مخيّر في أعمال الخير وأفعال الشر، كالعدل والظلم، والإنصاف والاعتساف، والرحمة والاعتداء، فبإمكانه ان يظلم أو يعدل أو يتبع الخير أو الشر. وهو مجبر في حالات أخرى مثل الولادة والموت والنوم واليقظة والصحة والتعرض للأمراض وانحطاط القوى الإنسانية عند الكبر وحالات الربح والخسارة، ومثل هذه الأمور لا تخضع لإرادة الإنسان وهو غير مسؤول عنها، فلا إرادة له في مجيئه الى هـذا العالم، وبعد حياة قد تطول أو تقصر يموت وتنتهي حياته، وينام الإنسان وهو مجبر ولا يستطيع الامتناع عن النوم مهما حاول، ويجوع فيأكل وهو مجبر، ويتمنى الصحة ويحافظ عليها ولكنه يصاب بشتى الأمراض وهو كاره لها، ويتدرج منذ ولادته بالصحة والقوة والنشاط حتى يبلغ أشده، ثم يبدأ بالضعف وانحطاط القوى فتوهن وتضعف عظامه وعضلاته وهو لا يستطيع لها رداً، ويحاول كل جهده العمل والربح وجني المال، ولكنه قد يخسر كل شيء وتتردى حالته المادية ويفقد ما جناه خلال حياته وهو يتحسر. وشخص آخر يولد في مجتمع راق متقدم ويتمتع بذكاء جيد وبصيرة منورة، بينما يولد غيره بليداً عاجزاً عن تدبير أموره في مجتمع فقير متخلف.
 
 
ومن الأعمال الاختيارية على سبيل المثال، يستطيع الإنسان ان يكون صالحاً أو سيئاً، محباً للعدل أو ظالماً، يحب الخير لجميع الناس أو شريراً يكره بني جنسه ويتعمد أذيتهم، وهذا يعتمد على نوعية التربية والمجتمع. فإن صلح المجتمـع انتشرت فيه الأعمال الطيبة وأثّر ذلك في أعمال الناس وأفعالهـم المختارة، فيزداد الخير والسلام بينهم، والعكس صحيح. فهناك من تدفعه الحاجة الى سلوك سبيل الشر أو السرقة لسد حاجته، بينما يمتنع غيره عن فعل ذلك لامتلاكه الوازع الذاتي المنبعث من مخافة الله وحسن التربية. وشخص يمتنع عن دفع دين بذمته ويتملص ويراوغ، ولا يجد دائنه سبيلا الا اللجوء الى القضاء لاسترداد ماله، وغيره لا يستطيع النوم ولا يهدأ له بال حتى يعيد للناس أموالهم، وآخر يسرع لمد يد المساعدة بكل طيبة نفس، وآخر يرى ويمتنع ويمضي في سبيله وكأنه لم يشـاهد أو يسمع شيئا، كل ذلك يدخل في باب الاختيار، وللإنسان إرادة فيه.
 
 
يتذمر بعض الناس من الفقر الذي يلازمهم طوال حياتهـم، ومن غنى غيرهم دون بذل عناء، فأين الجبر من هذا وأين الاختيار؟ يخضع هذا الموضوع لمفهومي الجبر والاختيار في آن واحد، ودليل ذلك نجاح بعض الناس من مختلف الطبقات وبدرجات ذكاء متباينة في أعمالهم وحصولهم على الثروة والمال، بينما يفشل غيرهم رغم جهودهم لتحقيق ذلك، لأن فرص العمل والنجاح لا تخضع لقانون محدد، ولا يمكن ان تكون مطلقة أو متساوية تماماً لتكفي كل البشر وتتوزع عليهم بالتساوي والعدل، فهذا يعتمد على ذكاء الفرد والفرص المتاحة وطرق استغلالها وتوقيتها والحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العامة للسكان، فالبلد الغني والمنظم اجتماعياً تكثر فيه فرص العمل وبالتالي فرص النجاح، والبلد الفقير تقل فيه فرص العمل فتقل نسبة النجاح وتزداد نسبة الفشل، وثقافة وتعليم الناس تسهم في زيادة عدد الفرص، وحدة الذكاء وكمية التنافس لها تأثير واضح في النتائج. كل هذه الأمور والمؤثرات تسهم في غنى الناس وفقرهم. ولكن يبقى لموضوع الجبر تأثير فعّال في النتائج. فهناك من يحاول الإثراء بكل جهده وتخدمه الظروف في التقرب من هدفه في العديد من المناسبات، لكنه يفشل في كل مرة، مما يدفعه الى نسبة ذلك الى الحظ السيئ أو الظروف التعسة. ورغم صحة ذلك في بعض الحالات، الا ان للخالق دوراً كبيراً وحكمة لا نفهمها. فقد يولد إنسان في عائلة ثرية وينعم بثرائه طوال حياته ولا يعرف ما هي الحاجة مطلقاً، وتراه يبذر أمواله ذات اليمين وذات الشمال، الا انه يبقى غنياً طوال حياته. وآخر يولد في عائلة فقيرة لا تجد الخبز الحاف لها، ويعيش ويموت على هذه الحال، رغم محاولاته المستميتة في الخروج من هذه الحلقة الخانقة ورغم تمتعه بالذكاء والصحة والتعليم وغيرها من الظروف المساعدة. وهناك بشر يعيشون بين الحالتين، فلا يطلعون ولا ينزلون. وهذه الحالات تقع في باب الجبر والتقدير الإلهي، وهنا يجب التسليم بقضاء الله وقدره وعدم الاعتراض على حكمته، إذ لابد للخالق من غاية أو حكمة يعتملها في هؤلاء، ومن يدري، فلعل توفر المال في أيديهم سيدفعهم الى الإساءة لأنفسهم أو لغيرهم بحيث يتمنون ساعتها الفقر بدلا من الغناء خلاصاً من المصائب وطلباً لراحة البال. 
 
 
ومثال آخر يوضح قضاء الله وقدره، هو المرض الوراثي أو العاهات المستديمة، فرغم بذل بعض الحكومات جلَّ اهتمامها في تحسين الصحة العامة لمواطنيها وتثقيفهم وزيادة عدد الأطباء والمهتمين بالصحة العامة وتوفير كافة وسائل العناية الصحية والمستشفيات، وهذا ما يساهم في تقليل الاصابة بالأمراض بشكل عام، الا ان هناك مرضى مصابين بأمراض مستعصية لا يمكن نسبتها الا الى تقدير العليم الخبير، مثل ولادة إنسان مصاب بالعمى أو الصمم أو بدون أطراف أو بمرض وراثي. وهنا لا نجد تفسيراً لذلك سوى الإذعان للقدر المحتوم. الا ان هذه الظاهرة يمكن تقليلها والتحكم بنسبتها مع تقدم العلم والاهتمام بالصحة العامة وانتشار الثقافة وزيادة فرص العمل وتحسن الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.
ان الإنسان مثله كمثل سفينة شراعية تسير في عباب بحر الحياة المتلاطم، فبدون مدد الرياح الإلهية وتأثير قوتها لا يمكنها الابحار أو الحركة، فتبقى ساكنة في مكانها. اما إذا هبت عليها رياح القوة فإنها تتحرك وتسير في طريق الحياة، لكن مقودها ودفتها هي التي تقرر الاتجاه، فان وجهها الربّان نحو شمال الشر، سارت وتقدمت، وان وجهها نحو يمين الخير وَيُمْنه، همّت ومضت.
ان الإنسان يأتي الى هذا العالم مجبراً بدون إرادته ويخرج منه بدون إرادته، لكنه يستطيع توجيه دفة حياته إما نحو أعمال الخير أو نحو أفعال الشر. وهذا قرار متروك بين يديه.
ومثال آخر: لو عيّن ملك أو رئيس جمهورية عادل، حاكماً له على مدينة ما، فإن سلك هذا الحاكم سبيل الخير والصلاح والأعمال الطيبة المرضية، كان ذلك مستحسناً ومستحباً لدى رئيسه، ولو سلك سبيل الظلم والقسوة والاعتداء والأعمال الشريرة، كان هذا سبب غضب الملك عليه. فالحاكم يمكنه سلوك أحد السبيلين وهذا في مقدوره، طالما انه يستمد قوته من قوة مليكه أو رئيسه. لكنه إذا ما عُزل من منصبه، فقد القدرة والقوة على التصرف، ويقف عاجزاً كما تقف السفينة وسط البحر عند انقطاع مدد الرياح عنها.
 
 
ان البشر يدخلون هذا العالم ويخرجون منه مجبرين، الا انهم مسؤولون عن أعمالهم وأفعالهم كل حسب ما كسبت يداه، وهذا العالم الفاني ما هو الا مرحلة من مراحل حياة الإنسان الروحانية، وانه سينتقل الى حياة أخرى أفضل منها، والله يضع الإنسان في وضع وحالة وحياة معينة بكل إشكالياتها ومحاسنها، ويقول له أرني ماذا ستفعل بهذا الوضع وكيف ستتصرف؟
هناك تأثيرات أخرى لها دور فعال حيوي في حياة الفرد، فما يسود المجتمع من عرف وتقاليد وأحكام وظروف سياسية واقتصادية وعلمية ودينية لها أثر كبير على سلوك الإنسان، فقد يحاول شخص التوجه نحو الخير الا ان ظروف المجتمع المحيطة به تجبره في كل مرة على تغيير مسلكه الى سبيل آخر؛ وشخص كلما حاول سلوك سبيل الشر يجد في طريقه من يمنعه ويرشده ويقوّمه الى سبيل الخير، والأمثلة كثيرة. 
ان درجة تطور المجتمع لها تأثير فعال وكبير في سلوك الأفراد، لذلك كان من الضروري اهتمام رجال الاختصاص والسياسة بتربية الأجيال والمجتمعات وتحسين الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسعي لإحلال السلام بين البشر وتقليل مصاريف التسلح والحرب والسعي الجدي الى نزع الأسلحة النووية، والاهتمام بوضع قوانين اقتصادية واجتماعية مناسبة صحيحة للحصول على نتائج جيدة مفيدة تخدم الجنس البشري وترفع مستواه الاقتصادي والاجتماعي لتقليل الفوارق الاجتماعية، فالمساواة بين الناس تماماً غاية لا تدرك وهدف مستحيل، ولابد من وجود الفوارق بين الناس، لأنهم خلقوا بقوى وقدرات مختلفة وطبائع متباينة، فمثلما يحتاج الجيش الى قواد وضباط وجنود ومستخدمين ليؤدي هذا الجيش دوره بشكل سليم، ومثلما يحتاج المصنع الى مدير ومهندسين وعمال مهرة ومستخدمين لدوران عجلة انتاجه بانتظام، كـذلك لابد للمجتمع من تفاوت بين درجات الناس وطبقاتهم لإدامة بقاء تطوره بشكل صحيح.
والخلاصة ان الإنسان مجبر في بعض الحالات ومخير في حالات أخرى، لكن المهم في كل هذا هو التصرفات والسلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعية التي تدخل تحت باب الاختيار، ومن الضروري معرفة كيفية التمييز بين الحالتين لخلق مجتمع متطور تسوده العدالة الاجتماعية والسلام وعدم نسبة كل ما يفعله الناس الى موضوع الجبرية أو نسبة أفعال الشر الى وسوسة الشيطان.( من قبسات-سيفى سيفى)

 




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :