الأقباط متحدون | كلنا روزا باركس
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ١٧:٤٠ | السبت ٢٧ اغسطس ٢٠١١ | ٢١ مسرى ١٧٢٧ ش | العدد ٢٤٩٨ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

كلنا روزا باركس

السبت ٢٧ اغسطس ٢٠١١ - ٤٠: ٠٦ م +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: إبرام رأفت

"فاز باراك أوباما. أخيراً تجسد حلم مارتن لوثر كنج، حلمه الكبير، بأمة تخرج من أغلال اللون وإيثاره إلى فضاء الإنسانية، حيث لا تفاضل ولا تمايز إلا بالجهد وبالعقل".
كانت هذه الكلمات البديعة القادرة على جعل كل متأمل يغوص بفكره في أعماق إنسانيته، هي مطلع تقرير بثته قناة الجزيرة في نوفمبر 2008 عقب فوز أوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية. لم يكن الحدث مدهشاً بسبب فوز مرشح الحزب الديموقراطي فهذا حدث كثيراً من قبل، بل ما حير العالم بأسره هو كيف أصبح "ابن اللا مكان" كما أسماه التقرير، أول رئيس أسود للولايات المتحدة رغم أنه من عقود قليلة كان يعاني بني جلدته من السود أشد أنواع التمييز وأمرّه؟! وكيف في سنوات قليلة تبدلت ثقافة شعب يدافع بكل جوارحه عن قوانين "جيم كرو" التي تفصل تماماً بين البيض والسود في جميع مناحي الحياة اليومية وتفضل البيض على السود، إلى شعب عقيدته هي قانون "الحقوق المدنية" الذي يجرم التمييز بكافة أشكاله وأنواعه؟!

ربما تستحيل الإجابة لمن لم يسمع قبلاً عن "روزا باركس"، تلك الخياطة البسيطة التي امتلكت من الأعوام اثنتين وأربعين عندما وقفت بكل شجاعة في مواجهة الظلم والتمييز العنصري، لتحول مسار تاريخ الولايات المتحدة وترسم لها مستقبلاً مشرقاً شُطِبَ من قاموسه كلمة تمييز. إنها السوداء التي عانت طوال طفولتها من التهاب مزمن في اللوز جعلها ضعيفة البدن مقارنة بأقرانها.

تربت روزا باركس في بلدة "مونتجومري" جنوبي الولايات المتحدة حيث عانى السود أشد أنواع الإهانة والتمييز العنصري. لم تفهم كطفلة لماذا تمنع الأمهات أولادهن وبناتهن البيض من اللعب معها؟ لم تفهم ما الجرم الذي ارتكبه الأطفال السود ليذهبوا إلى مدارسهم مشياً على الأقدام ويحرمون من أتوبيس المدرسة على عكس أقرانهم من البيض؟ ولماذا يتم تخصيص مقاعد خاصة للسود في وسائل النقل العامة، ويتم إجبارهم على التخلي عنها لأحد البيض إذا احتاجوا إليها؟ كل ما فهمته أن معاملة بعض البيض لها برقة وبلطف لم يمنعها من الشعور بالقهر والألم من التمييز الذي يعاني منه بني جنسها.

كبرت روزا باركس وبدأت تفهم أن بعض البشر يؤمنون أنهم خلقوا من طينة خاصة غير التي خلق منها الجميع. أدركت وجود من هم مقتنعون أن السبب الوحيد الذي جعل الله يخلق غيرهم هو لكي يمتلكوا العبيد. تيقنت أن العنصرية كل العنصرية تتجلى في المغالطة التي يرددها بعض المتعصبين من البيض الرافضين لحركة الحقوق المدنية بأنه "يجب على الأقلية ألا تنسى أنها أقلية ولهذا فلزاماً عليها أن تحترم ثقافة الأغلبية وتخضع لحكمها"، وفهمت أنه لا مساواة حقيقية في العبارة التي تسمعها منهم باستمرار "متساوون لكن منفصلون".

هكذا عاشت باركس إلى أن جاء هذا اليوم الذي شق تاريخ الولايات المتحدة – بل تاريخ الجنس البشري – إلى ما قبله وما بعده. فبعد ساعات من العمل المضني في أول أيام شهر ديسمبر شديد البرودة عام 1955، جلست باركس في مقعد من المقاعد المخصصة للسود في أتوبيس نقل عام متلهفة العودة لمنزلها. وانطلق الأتوبيس محطة تلو الأخرى محملاً المزيد من الركاب. إلى أن لاحظ السائق وقوف رجلين أو ثلاثة من البيض، فتوجه على الفور إلى أربعة من السود – من بينهم باركس – وأمرهم بإخلاء مقاعدهم لأسيادهم. تحرك الثلاثة ركاب تاركين أماكنهم كملايين السود كل يوم إلا روزا باركس التي تحول رفضها للإهانة إلى أشهر "لا" في التاريخ الحديث. وأدى ذلك إلى القبض عليها وتغريمها 14 دولاراً نتيجة كسرها للقوانين وتمردها عليها. ولكنها لم تكن تعلم أن ما فعلته كان بداية المخاض لولادة روح جديدة للولايات المتحدة. فكان القبض عليها بمثابة الشرارة التي استخدمها القس مارتن لوثر كنج في إشعال 381 يوماً من إضراباً للسود عن استخدام أتوبيسات النقل العام احتجاجا على ما يلقونه على متنها من إهانات، أدى في النهاية إلى صدور قانون يجرم مثل هذا النوع من التمييز المشين.

"لا تدع هذا يشعرك بأنك أقل من البيض، فأنت لا تقل عن أي شخص آخر".
تذكره الدائم لهذه الكلمات التي أودعته أمه إياها منذ طفولته، هو ما جعل مارتن لوثر كنج يستمر في نضاله التاريخي لهدم الجدار الفاصل بين البيض والسود بالكامل. ففي عام 1963 ومن أمام النصب التذكاري لأبراهام لينكولن، ألقى كنج على ما يقرب من ربع مليون شخص من بينهم ستون ألفاً من البيض واحدة من أبلغ خطب التاريخ البشري على الإطلاق، استمرت لمدة 17 دقيقة...
"لدي حلم" قال كنج، "بأن يأتي اليوم الذي يعيش فيه أطفالي الأربعة وسط شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم... لدي حلم بأنه في يوم ما ستنهض هذه الأمة وتعيش المعني الحقيقي لعقيدتها الوطنية بأن كل الناس خلقوا سواسية... لدي حلم بأنه يوماً ما هناك في ألاباما ستتشابك أيادي الأولاد والبنات السود مع الأولاد والبنات البيض كإخوة وأخوات. أنا لدي حلم اليوم".

كانت حياة كنج هي الثمن الذي دفعه لولادة حلمه في قلب أمة لم تكن تؤمن بالأحلام إلا لأغلبيتها البيضاء المتعصبة. اغتيل كنج عام 1968 ولم يبلغ الأربعين من عمره، ولكنه ترك حلمه حياً في قلوب الملايين. كان فقط على الولايات المتحدة أن تنتظر أربعين عاماً أخرى لتبهر العالم كله بحلمه متجسداً.

بعد اغتيال كنج بسنوات، ذكرت روزا باركس عن حادثة الأتوبيس الشهيرة: "لقد سئمت من معاملتي كمواطن درجة ثانية... في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي، والتجأت إلى الله، فأعطاني القوة التي يمنحها للمستضعفين".
وأخيراً، تركت باركس عالمنا في أكتوبر 2005، ولكن لا يزال ذكرها يلهم كل أمة تبحث عن التحليق في سماوات الإنسانية. حقاً امتلكت باركس إيمان وأمل وقلب امرأة استطاعت تغيير أمتها، وكانت حياتها تجسيداً لما عبرت عنه بكلماتها: "إن ذكرياتنا وأفعالنا ستستمر في الآخرين من بعدنا".

والآن في هذه اللحظات الفارقة من تاريخ أمتنا، والتي يكثر فيها كل يوم من يطالبون بتعطيل قطار إنسانيتنا عند محطة القرن السابع حيث التمييز العنصري على أساس الدين والجنس، ما أمس حاجتنا لروزا باركس في كل شارع وكل منزل من منازلنا. وأمام أحلام الكثيرين بتكبيل أمتنا بأغلال الكراهية، لا يسعني إلا أن أطلق حلمي بروح مارتن لوثر كنج وأستودعه قلب كل مؤمن بحقوق الإنسان وأستعير لسانه في ترديد بعض العبارات الخلابة التي أتحف بها العالم كله في خطبته الشهيرة لأقول:
"لدي حلم بأنه في يوم ما كل وطاء يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيماً، والعراقيب سهلاً. فيعلن مجد الرب ويراه كل البشر جميعاً... بهذا الإيمان سنكون قادرين على شق جبل اليأس بصخرة الأمل، بهذا الإيمان سنكون قادرين على تحويل أصوات الفتنة إلى لحن جميل من الإخاء".
 




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :