دير سانت كاترين.. وسردية في التسامح الإسلامي
بمجرد أن تطأ قدماك هذه البقعة الفريدة من أرض سيناء تشعر بعبق التاريخ يعانق روحانية النبوة، كيف لا، وأنت في الوادي المقدس (طوى)، حيث أخذ موسى الكليم لوحي العهد وفيهما الوصايا العشر المقدسة.
رحلة علمية بحثية قادت صاحب هذه السطور الأيام الماضية إلى دير سانت كاترين في أرض الفيروز، سعيا وراء المكتبة التاريخية القابعة هناك في أحضان هذا الصرح الأثري الواقع في أرض الفيروز، ودون أن تدري تجد انك وجها لوجه مع سردية من التسامح الإسلامي، تخطها يد التاريخ على جدران وأسوار الدير.
ينظر إلى دير سانت كاترين على أنه واحد من أعظم وأقدم المؤسسات الدينية في العالم، ويؤرخ له كوحدة كاملة البناء منذ عهد الإمبراطور البيزنطي جستينيان (527 - 566 م)، في القرن السادس الميلادي.
بني الدير حول شجرة تدعى شجرة موسى التي اشتعلت بها النيران فاهتدى إليها موسى ليكلم ربه عند جبل التجلي.
يمكن القول بأن تاريخ الدير مع الحكام المسلمين كان غالبا لصالح الرهبان فهو يحظى بمكانة مرموقة ومركز ممتاز وليس أدل على ذلك من حرص النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، على أن يعطي للرهبان عهدا بالأمان، وذلك منذ أن وطئت قدماه الكريمتان حدود سيناء في أيلة (إيلات) عند زيارته لتبوك.. ما الذي جاء في هذا العهد؟
بحسب الصورة المعتمدة الموجودة في مكتبة الدير، التي حمل أصلها السلطان سليم الأول إلى الأستانة عند فتحه لمصر عام 1517 نقرأ ما نصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، بشيرا ونذيرا، ومؤتمنا على وديعة الله في خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزا حكيما، كتبه لأهل ملة ولجميع من ينتحل دين النصرانية، في مشارق الأرض ومغاربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها، كتابا جعله لهم عهدا، فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره، وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثا، ولميثاقه ناقضا، وبدينه مستهزئا وللعنة مستوجبا، سلطانا كان أو غيره من المسلمين المؤمنين.
لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا حبيس من صومعته، ولا سايح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنايسهم وبيعهم ولا يدخل شيء من بناء كنايسهم في بناء مسجد، ولا في منازل المسلمين، فمن فعل شيئا من ذلك فقد نكث عهد الله، وخالف رسوله ولا يحمل على الرهبان والأساقفة وأي من يتعبد جزية، ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق أو المغرب والشمال والجنوب، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه، ولا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذى المكروه، حيث ما كانوا، وحيث ما حلوا، ويعاونوا على مرمة بيعهم وصوامعهم ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد».
هذا العهد تؤكد الكنيسة القبطية في مصر صحته، وترى فيه عهدا رفيعا من التسامح وحفظ الحقوق، وكفالة حرية العبادة، لغير المسلمين، عهد سبق بأربعة عشر قرنا أحاديث «شرعة حقوق الإنسان، ومبادئ الأمم المتحدة، وغيرها من النصوص الحقوقية المستحدثة.
ويرى المؤرخ والكاتب الروسي قسطنطين بازيلي أن هذا العهد جاء كمكافأة لرهبان الدير بعد أن أحسنوا لقاء الرسول في زيارته، وقد نادى المؤرخ القبطي الأشهر في التاريخ المعاصر الدكتور عزيز سوريال بنفس الرأي، حين قال إنه مع توقيع النبي على العهد انضم له كل المسلمين المخلصين ليحموا الدير ورهبانه.
أما المستعرب الروسي بيرمنوف فيقول إن مطران سيناء قسطنديوس في كتابه عن مصر المطبوع في أربعينات القرن التاسع عشر ذكر أن محمدا عليه الصلاة والسلام رد جميل حسن الضيافة للرهبان، بمنحهم سنة 624م في اليوم الثالث من محرم صك الأمان، وأن النص كان محفورا على جلد غزال بخط كوفي ممهورا ببصمة النبي، وتوقيع واحد وعشرين شاهدا.
ومن المهم أن ننوه هنا بأن الكنيسة القبطية في مصر قد تذرعت بهذه الوثيقة سنة 1810 في نضالها لاستعادة حقوقها في كنيسة القيامة في القدس، حيث قرئ النص بشكل احتفالي مهيب لإثبات حقوق وامتيازات أتباع المذهب الأرثوذكسي من أبناء الكنيسة المصرية.
ويلاحظ من المراسيم التي أصدرها حكام مصر لصالح الرهبان كانت مستمدة روحا وفي بعض الأحيان نصا من عهد عمر بن الخطاب «العهدة العمرية» الذي يعتقد بعض الفقهاء والمؤرخين من القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي أنه القانون الذي يحدد العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة.
ويدين التراث المسيحي في مصر والعالم للعرب والمسلمين لحفاظهم على أيقونات الدير سليمة مصونة في الوقت الذي تعرضت فيه باقي الأديرة والكنائس في العالم المسيحي الأوروبي والآسيوي لحركة محطمي الأيقونات التي قام بها الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث الايسوري (717 - 740)، حيث إن مصر، وبالتالي سيناء كانت خاضعة للحكم العربي الإسلامي ولا سلطان للإمبراطور البيزنطي على مسيحي مصر.
ولم تسلب حرية الرهبان تحت الحكم الإسلامي، فكان لهم حق التراضي حتى أمام الخليفة ضد الغبن الواقع عليهم، وذلك مثلما حدث سنة 924 ميلادية، عندما كانت مصر تابعة لحكم الخلافة العباسية، أن أخذ الرهبان والأساقفة بأداء الجزية، فأخذت منهم ومن الضعفاء ومن المساكين من جميع الديارات بأسفل مصر والصعيد، ومن رهبان طور سيناء، ومن ثم فقد سافر وفد من هؤلاء الرهبان لبغداد حاضرة الخلافة للاستغاثة بالخليفة المقتدر فكتب لهم بأن لا تؤخذ الجزية من الرهبان ولا من الأساقفة وأن يجري على أمرهم ما كانوا عليه من قبل.
ولعل الباحث المحقق والمدقق في مكتبة دير سانت كاترين يدرك أنها تعكس، وعن حق، جوهر العلاقة التي قامت بين الملوك والولاة والسلاطين المسلمين طوال الأربعة عشر قرنا الماضية، وبين المسيحية والمسيحيين في تلك البقعة ذات الثراء الروحي المنقطع النظير حول الشرق الأوسط والعالم برمته.
وتشكل المكتبة أهمية خاصة في وحدات الدير المعمارية، فهي ذات شأن عظيم من الناحيتين الروحية والعلمية للرهبان، بل ويرجع الكثير من شهرة دير سانت كاترين إلى مكتبته الغنية بالمخطوطات والكتب وغيرها من الوثائق المهمة، وتعد مكتبة الدير من أقدم المكتبات وثاني أهم مكتبة في العالم بعد مكتبة الفاتيكان.
وتتكون من ثلاث غرف تقع في الطابق الثالث في مبنى قديم، جنوب الكنيسة الكبرى «التجلي» تحوي 5 آلاف كتاب مطبوع، 3500 من المخطوطات، ونحو 2000 من الدرج (لفائف البردي، أو الرق)، بلغات متعددة كاليونانية والقبطية والسلافية والسريانية والجورجية والأرمنية والعربية والعبرية في جميع المجالات، تاريخية وجغرافية، وفلسفية، وحتى طبية.. وغيرها بالإضافة إلى نحو 2000 وثيقة وفرمان أعطاها الولاة للدير ومعظمها ترجع إلى العصر الفاطمي.
ومن أهم مقتنيات مكتبة الدير: الطبعة الأولى لكتب أفلاطون وهوميروس، والكتاب المقدس الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي، على نفس حالتها على الرغم من المناخ الصعب في هذه البيئة الجبلية الوعرة.
ولعل أكثر ما يحزن قلب الباحث العربي هو أن يكتشف كيف أن عقلية المؤامرة الغربية وفكرها الاستعماري كانت وإلى وقت قريب تعمل «أنيابها البحثية» إن جاز التعبير في مقتنيات العرب الفكرية والروحية، ففي القرون القريبة قامت الأكاديمية الألمانية على سبيل المثال بإقناع رهبان الدير بأخذ بعض الوثائق والمخطوطات بحجة مساعدتهم في أبحاثهم ومع الأسف لم ترجع مرة أخرى، وكان مصيرها النهائي بالمتحف البريطاني، كمصير حجر رشيد، وكمصير رأس نفرتيتي في ألمانيا.
ومما لا شك فيه أن المخطوطات العربية بدير سانت كاترين لها أهمية خاصة فائقة، فهي تظهر لنا دبلوماسية الخلفاء المسلمين الظاهرة في تعاملهم مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وتمدنا بمعلومات قيمة عن تاريخ نظم الدول الإسلامية، فعلى الرغم مما صدر فيه من دراسات تعد بالمئات فإنها تفتقر إلى المصدرية الوثائقية، هذا ما توفره الوثائق بصفة عامة ووثائق الدير السياسية بصفة خاصة. وإضافة إلى كل ذلك تعطينا مخطوطات ومكتبة الدير خلفية رائعة عن التاريخ الاجتماعي لمصر عبر القرون الغابرة، وكذلك تكشف عن سيناء كبوابة شرقية لمصر، تعطي أيضا مادة ثرية عن التاريخ الاقتصادي وأزمنة الرخاء، وكذلك أوقات العسر التي مرت بها مصر أي أنها تاريخ نابض.
ومن بين السطور المضيئة لدير سانت كاترين نجد الدور الذي لعبه رهبان الدير أثناء فترة حروب الفرنجة كما قالت العرب، والحروب الصليبية بلفظة الغرب، فقد رفض أصحاب الدير استضافة الملك «بلوديني» الأول ملك بيت المقدس ورفضوا طلبه المبيت ليلة بالدير أثناء حملته الاستطلاعية في شبه جزيرة سيناء سنة 1116 ميلادية، ولهذا نرى صلاح الدين الأيوبي يجدد لاحقا وبعد فراغه من الحروب، ما كان يقوم به الخلفاء الفاطميون، من رعاية الرهبان المنقطعين للعبادة في الدير، وتبعه في ذلك أخوه الملك العادل سيف الدين أبو بكر، وتوجد وثيقة صادرة منه إلى رهبان الدير هدد فيها من يتعرض لهم بضرر أو أذى بأشد العقاب.
والجدير بالذكر أن هناك مسجدا صغيرا بالدير، ولا تزال تقام فيه الشعائر الدينية حتى وقتنا هذا.
بني هذا المسجد في عهد الدولة الفاطمية بأمر من الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله في عام 1106 داخل الدير أمام الكنيسة الرئيسية وبالتحديد في الجنوب الغربي لها، وهناك رأيان تاريخيان حول قصة بناء هذا المسجد، لم يقطع بصحة أي منهما حتى الساعة، الأول يقول بأن الرهبان هم الذين قاموا ببناء المسجد استرضاء للخلافة الإسلامية (الدولة الفاطمية) واتقاء لغضبهم.
والثاني يرى أن المسلمين هم الذين قاموا ببنائه ليكون لهم دفاعا منفصلا ومستقلا للدير خلال الحروب الصليبية.
والمثير أنه لم يفت عدد كبير من المستشرقين اللعب على وتر هذه القصة بنفس وحس طائفيين، بالقول «إنه شكل من أشكال فرض السيطرة الإسلامية في ذلك الوقت».
وإن كنا نرجح تفسيرا ثالثا وهو أن المسجد إنما كان همزة وصل بين روحانيات الأديان في تلك البقعة الطاهرة، وقبل به رهبان الدير، وهم في كنف عهد وميثاق أوسع وأشمل (العهد النبوي)، الذي معه لا تستقيم السطوة ولا يصلح الإجبار، وعليه فقد كان من غير الممكن بناء هذا المسجد داخل حرم الدير من دون موافقة أهله وأصحابه.
وفي كل الأحوال يبقى دير سانت كاترين في أرض المحروسة شاهدا على التعايش الذي انتصر على دعوات الصراع وأعطى صورة مشرقة ومشرفة للتسامح الإسلامي مع غير المسلمين على مدى التاريخ.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :