حياة ذات قيمة ومعنى
بقلم: القمص أفرايم الأورشليمي
رسالتنا في الحياة
لقد خلقنا الله لأعمال صالحة يجب أن نقوم بها، ويرجو الله لنا أن نؤديها وإلا نعرِّض أنفسنا للتقويم والإصلاح، وإذا لم نتقوَّم نتعرض للرفض والعقاب، كما أن أي صانع لمعدة ما يكون له هدف وتصوُّر من صناعتها، ويسعى أن تحقِّق هذه الآله هدفها وإلا تصبح معطلة وعديمة القيمة، حينئذ يعمل على إصلاحها وإلا تُباع في سوق الخردة ليتم تدويرها إلى شيئ آخر أو تُلقى بين المهملات.
إن محبة الله الغافرة والصابرة تعمل على تقويمنا وتهذيبنا وإصلاحنا لنكون أمناء على الوزنات المعطاة لنا وننميها ونربح بها أنفسنا وإخوتنا وملكوته السماوى "من يحب نفسه يهلكها ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية" (يو 25: 12). علينا إذن أن نفكِّر ونعمل من أجل معرفة الهدف الذي يريده الله من وجودنا وتقييم حياتنا ومحاسبة أنفسنا، لاسيما أن العمر يمضي وتجري بنا السنون والأيام. فحياتنا أوقات، ومن يضيِّع أوقاته يضيِّع حياته، ومن يستغلها حسنًا في محبته لله والخير والغير، ويعمل حسنًا ويحيا حياة الفضيلة والبر، فإنه ينال إكليل الحياة "جاهد جهاد الإيمان الحسن وامسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيت أيضًا، واعترفت الاعتراف الحسن أمام شهود كثيرين" (1تي 6: 12).
لا يستهن أحد منا بقدراته وإمكانياته. إننا في يد الله نستطيع أن نكون قوة وبركة، فخمسة أرغفة صغيرة لدى فتى قدَّمها ليد الرب القدير أشبعت خمسة آلاف رجل ماعدا النساء والأطفال، ورجل غريب في بلد بعيد قديمًا هو "يونان" النبي الهارب، قاد المدينة كلها للخلاص "واختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود (1كو 1: 27-28).
لقد تعلَّل "موسى" النبى عندما كلَّمه الله أن يذهب إلى "مصر" لإخراج الشعب من العبودية بأنه ثقيل الفم واللسان، ورفض المهمة، وعاد الله يلح عليه ويقدِّم له البراهين حتى أقنعه. وهل كان الله عاجزًا عن إخراج الشعب بغير "موسى"؟ كلا طبعًا! ولكن الله يريد أن يُشركنا معه في العمل. كما رفض "أرميا" النبى الدعوة محتجًا بصغر سنه "فكانت كلمة الرب إليَّ قائلًا: قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدَّستك، جعلتك نبيًا للشعوب. فقلت: آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلَّم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب. ومد الرب يده ولمس فمي، وقال الرب لي: ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس" (أر4:1-10). ولقد استخدمه الله بقوة لينادي في الشعب بالرجوع إلى الله، ونادى بالتوبة بالدموع والكلمة والحكمة والمثل. وأنت أيضًا مدعو للاشتراك مع الله في كل عمل صالح.
لقد جاء السيد المسيح ليهبنا حياة أفضل على الأرض، وفي النهاية الحياة الأبدية السعيدة "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17: 3). إن معرفتنا لله هى حياة أبدية، كما أن نمونا في هذه الحياة بالتلمذة والمحبة ومعرفة مشيئة الله وتتميمها في حياتنا واجب علينا إلى أن نصل إلى حياة المحبة والاتحاد بالله والشهادة لفضل من نقلنا من عالم الظلمة إلى نوره الحقيقي. يجب أن نكون رائحة المسيح الذكية للذين يخلصون وحتى من لا يؤمنون ويهلكون "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان. لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة ومن هو كفوء لهذه الأمور" (2 كو 2: 14-16). ولكن علينا أن نحيا ونعمل كسفراء للسماء "إذا نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله (2 كو 5: 20). إننا لكي نكون هكذا سفراء يجب أن نجيد لغة أهل السماء، وأن يكون لدينا المهارات اللازمة والإتصال الدائم بالسماء، وفي ذات الوقت أن نكون واعين بالمجتمع الذي نحيا فيها ومتطلباته وهمومه ومصالحه، ونرفع بذلك كل يوم صلواتنا وهموم مجتمعنا لله. وفي ذات الوقت نسعى لتحقيق دعوة الله للتوبة والمصالحة والسلام وتحقيق ملكوت الله على الأرض.
المؤمن الحقيقي يقترب من الله وتعاليمه ومحبته كنور للعالم "ثم كلَّمهم يسوع أيضًا قائلًا: أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12)، ومن هذا النور ينهل ويتعلم ويحيا. وكما يستمد القمر نوره من الشمس وينير ليلًا، هكذا نحن نأخذ من نور المسيح ونستنير وننير للآخرين "أنتم نور العالم لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل" (مت 5: 14). نحن نستنير بالإيمان والتوبة المستمرة وبكلمة الله وبالمحبة العاملة فينا، وبقيادة روح الله لنا وبأعمالنا الصالحة نشهد لإيماننا العامل بالمحبة "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16). الإنسان المسيحي ضرورة لحياة مجتمعه، يعطيه مذاقة روحية، ويسهم بقوة في حفظ العالم من الفساد، ويجعل مجتمعه مقبولًا في عين الله. وكما نحتاج إلى الملح في الطعام فنحن نحتاج للمؤمن في العالم "أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح، لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يُطرح خارجًا ويُداس من الناس" (مت 5: 13). فلكل منا دوره في أسرته وكنيسته ومجتمعه، وكلما كان لنا النضج الروحي كلما ساهمنا في تقدُّم المجتمع الذي نحيا فيه وإسعاده وجعله يقترب أكثر إلى الله وإلى الكمال النسبي الذي يريده لنا الله.
نحن بالمحبة الروحية للآخرين نشهد للنور الذي فينا، فالله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه. نقبل الآخرين كما هم كما قبلنا السيد المسيح لمجد الله الآب في مرونة وانسجام، حتى منْ يعارضنا. مصلين من أجل الجميع، نؤثِّر في منْ حولنا، ونقبل ما يتوافق مع مبادئنا ونرفض في أدب ما يتعارض مع أخلاقنا وقيمنا المسيحية. نخدم في محبة للجميع من كل القلب، نحب الله والناس ونبذل من وقتنا ومالنا ومشاعرنا كل الوقت على قدر طاقتنا دون انتظار لمقابل من أحد، فنأخذ المكأفاة من الله، واثقين أن حتى كأس الماء المقدَّم للغير في محبة لا يضيع أجره.
كيف يكون لحياتي قيمة ومعنى؟
أنت كإنسان خُلقت على صورة الله ومثاله "فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك 1: 27). خلقك الله بروح خالدة لا تفنى، بل بعد الموت تنتقل الروح وترجع إلى خالقها لتحيا إلى الأبد. وجعل الله للإنسان سلطانًا على كل الكائنات الحية الأخرى، بل أن كل المخترعات الحديثة في مجال الهندسة والطب والصناعة والتكنولوجيا والعلوم تشهد على عظمة الخالق في الإنسان كاهن الخليقة وتاجها. وعندما سقط الإنسان وتمرَّد وطُرد من الفردوس، تعهَّده الله بالأنبياء، وفي ملء الزمان تجسَّد الابن الوحيد ليعلن لنا محبة الله "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16). وقد اقتنانا له بالدم الثمين على عود الصليب "لأنكم قد اُشتريتم بثمن فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 20)، "قد اُشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدًا للناس" (1 كو 7: 23). أنت سواء كبير أم صغير، رجل أم امراة، وذو وظيفة أو عمل مرموق أو بسيط- مخلوق لأعمال صالحة لتعملها. فلا تنس إذن قيمتك الثمينة لدى الله، وحياتك رحلة موقتة في كوكب الأرض، وسترجع قريبًا إلى وطنك السماوي. وهنا لديك الفرصة والوقت للتوبة والرجوع إلى الله والإيمان بمحبته الغافرة والمحرِّرة، ومن ثم الإثمار حسب طاقاتك ومواهبك وعطايا الله لك "لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أف 2: 10). فانظر كيف تؤدي عملك بأمانة وإخلاص، وأن تكون أمينًا مع أسرتك وأقربائك وكنيستك ومجتمعك، تحيا في انفتاح على الجميع دون تطرُّف أو تسيُّب أو انغلاق مرضي، في حكمة مع الجميع دون أن تتنازل عن مبادئك أو تحيد عن أخلاقك، وتحب الكل مشفقًا على الخطاة والمرضى والمحتاجين والمتألمين، فرحًا مع الفرحين وحزنا مع الحزانى، مفرِّقًا بين كراهيتك للخطية ومحبتك للخطاة.
أنت تعطي لحياتك قيمة أيضًا بما تملك من مواهب وقدرات ووزنات تنميها وتخدم بها الآخرين وتسعدهم؛ لتكون عضوًا فعالًا حيًا في أسرتك وكنيستك ومجتمعك. اقبل نفسك كما هي كما قبلها المسيح له المجد، واعرف المجالات التي يمكنك التفوق فيها، وعليك بتنميتها واستخدمها حسنًا. وعالج أخطائك واقلع عن خطاياك وآثامك، واكتسب عادات إيجابية في حياتك ومع الوقت تصبح من طباعك. أحبب نفسك محبة سليمة دون أنانية أو تدليل أو قسوة، مهذبًا نفسك بالحكمة، واسلك بتواضع قلب مع الجميع في محبة بدون رياء. إهتم بصحتك الجسدية كوزنة من الله تحمل روحك وإنسانك الداخلي، وإهتم بعقلك وتعليمه، مداومًا على التعلم والمعرفة وتطبيقها في حياتك "لاحظ نفسك والتعليم وداوم على ذلك لأنك إذا فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضًا (1 تي 4: 16). إهتم بروحك وتقويتها بالصلاة والصوم والأسرار المقدسة. اعمل على اكتساب مهارات جديدة في مجال عملك وقم بتأديته في محبة، فليس المهم أن تعمل ما تحب بل الأهم أن تحب أي عمل تقوم به، فرحًا بما وهبك الله من وقت وعلاقات، مستغلًا كل الفرص المتاحة لتقدم الخدمة في روحانية ومحبة للجميع.
علاقاتك بالناس تعطي لحياتك معنىً وقيمة، ويكون هدفك في علاقاتك هو خلاص نفسك ومن حولك. فالخدمات أو الحوارات أو اللقاءات تكون لها هدف سام دون جدل عقيم أو نميمة منفرة. المحبة الحقيقة لا تحسد ولا تتفاخر ولا تحتد أو تقبِّح أو تظن السوء، المحبة تحتمل وتصبر حتى إن تعرضت للتجريح أو الإساءة أو الظلم، بل تدافع عن الحق في أدب وتواضع، لا بهدف كسب الجدال بل بهدف كسب القلوب والنفوس.
نحن نعلم أنه قد لا نستطيع أن نغيِّر الآخرين، لاسيما المعاندين والكارهين، ولكن يجب أن نعمل على أن لا نزيد العداوة، مُصلين من أجلهم، ومحاولين على قدر استطاعتنا مسالمة جميع الناس، وتغييرهم وتحويلهم إلى أصدقاء متى أمكن ذلك. المسيحي لا يكره أو يعادي أحدًا، عالمًا "أن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12). وكما يعلِّمنا الكتاب المقدس "فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فإسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه" (رو 12: 20)، وليس ذلك يعني أنك تريد إحراق عدوك، ولكن عندما تعمل معه الخير فإنه سيشعر بالذنب ويرجع عن خطأه. فقديمًا كان المذنب أو حتى القاتل يأتي بثياب كفنه ووعاء فيه نار على رأسه ويذهب إلى أهل المعتدى عليه طالبًا المغفرة والصفح، وكأنه يقول إني أستحق الموت والحرق ولكنني جئت طالبًا المغفرة والسماح فيُصفح عنه.
إذن حياتك فرصة عظيمة كل يوم لتنمية نفسك وعلاقاتك بالآخرين، سواء فى محيط الأسرة الصغيرة أو العائلة أو الكنيسة أو العمل أو المجتمع الذي تنتمي إليه، تُحبهم فتخدمهم، ولديك فرصة للنمو في محبة الله ومعرفته، إلى أن تصل إلى الشركة والصداقة الدائمة معه. عالمًا أنك ابن لله، وهو جاء ليهبك الحياة الفاضلة على الأرض والأبدية السعيدة في السماء "وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 10: 28). فلتقل إذن كما قال القديس "بولس" الرسول "لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (في 1: 21). "الروح والعروس يقولان تعال، ومن يسمع فليقل تعال، ومن يعطش فليأت، ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجانًا (رؤ 22: 17). أنت يا الله تعطي حياتي القيمة العظمى.
أيها الرب إلهي، يا من خلقتني إنسانًا كمحب للبشر، ووهبتني نعمة العقل الواعي والروح الخلاقة والجسد المتقن، ووهبتني علم معرفتك والتعلم من وصاياك، ومن عمق محبتك تجسدت لتجعلني ابنًا لك بالتبني والنعمة، أشكرك على كل مواهبك وعطاياك، وأصلي لتهبني الحكمة والنعمة والقوة لأفهم رسالتي في الحياة، وأقوم بها كالتزام وواجب ومهمة ومسئولية في محبة لك وللغير ولصنع الخير.
أنت تريدني أن أكون سفيرًا للسماء، أسعى نحو معرفة إراتك، وأن أعملها داعيًا في حكمة لمعرفتك، ومقدمًا للآخرين القدوة والمثل في الكلام والإيمان والصمت والعمل والتصرف. فلتهبني أيضًا يارب كل الإمكانيات والنعم الغزيزة، والثمار والمواهب الروحية التي تجعلني أهلًا للقيام بدوري كسفير صالح لك، وإن كان ذلك صعب علىَّ فأنا أثق في نعمتك الغزيزة وإنك تهبني من نور نعمتك لأستنير وأنير ولو بشمعة الطريق المظلم للأخرين. لتجعلني ملحًا صالحًا يعطي مجتمعه مذاقة روحية، وأكون رائحتك الذكية للجميع.
علمني يا إلهي كي أسعى جاهدًا في طريق التوبة والقداسة؛ لكي ما أجعلك أمامي في كل حين، وأراك في كل أحد يقابلني، مقدمًا له محبة وسلامًا وبذلًا وخدمةً، وأرى حكمتك وقدرتك في كل خلائقك، ومعها أحيا في انسجام وتناغم، مقدمًا تسبيحًا وشكرًا لاسمك القدوس، فرحًا بك أولًا ثم بكل هباتك وعطاياك، وعندما تشرف رحلة حياتي على الانتهاء ضمني إلى بيتك الأبوي وأحضانك الإلهية؛ لأعيِّد معك عيدًا لا ينتهي في عليا سمائك، أمين.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :