الاسلام السياسي و"الطريق المسدود"
ياعيني عالبلد
بقلم: جميل يوسف
سألني عدد كبير من الأصدقاء والكتاب " أنت ساكت ليه يأستاذ ، قول حاجة ، معقول تسكت بعد كل ما جري ويجري في مصر والعالم العربي".
أيها الأصدقاء ،ليس عندي ما أقوله لكم سوي عبارات حية في أذني للراحل الباقي نزار قباني عندما سألته يوما في لوس أنجلوس عن أستبداد الحكام العرب فرد الشاعر الكبير: ماذا أقول بعد أن انتهي الكلام الجميل والحوار الجميل وأشتعلت اللغة شيبا ...؟ كيف ياسادة يغني المغني بعد خيطوا له شفتيه في هذا الزمن المالح الذي تمتد فيه عصور الآنحطاط . لم أعد قادرا علي الكتابة بنصف أصابعي ولا علي الصراخ بنصف صوتي ولا علي الاحتمال أمام أي سلطة أو أي سلطان.
أيها الأصدقاء أن قلمي الحرالجريء الذي ينبض كبرياء أصابته الدهشة والذهول من هول المفاجأة ونحن في مواجهة خراب كبير يتراكم علي أمتداد الخريطة العربية بعد ثورات ، لا أحد يعلم من خطط لها ومن مولها ومن يوجهها ومن في النهاية سيجني ثمارها. ففي كل الثورات يخطط لها العقلاء وينفذها المجانيين ويجني ثمارها الأنتهازيون، وأن لم تصدقني فعليك قراءة تاريخ الثورات العالمية من جديد لتعي الدرس ،وهذا ليس عجيبا في رأيي فقد علمنا التاريخ ألا نتعلم.
وكراصد للأحداث العالمية يعيش تحت سماء الولايات المتحدة الأمريكية ويمتلك قلما ورأيا حرا بعيدا عن صراع المواقع ولعبة الكراسي التي يسعي وراءها الكثيرين من مدرسة " قلم مفروش للايجار".
أري أننا نعيش وقتا من أصعب وأدق الأوقات في تاريخ مصر والعالم العربي ومحاولة الشعوب أن تحصل علي مزيد من التحرر من الخوف والجوع والمرض والظلم والجهل ، فاذا تحقق لها ذلك فهي منتهي الكرامة والعزة ، ومادامت بلا كرامة ، فليس لها تاريخ وليس لها مستقبل.
ولن يفيد الآن التكلم عن من كان بالفعل يحكم مصر، ومن الذي تأمرعلي سقوط مبارك بهذه السرعة من رجال الحاشية والدول الكبري ، ومن ساعد الرئيس مبارك علي هذه النفخة "الكدابة" وتعاليه ومحاولة تقديسه بذل الشعب والانفصال عنه، ومحاولة أيهامه بشعبيته المطلقة عند الناس ، وسوف أعود الي هذا الحديث بالتفاصيل والأسماء فيما بعد.
وسوف يكون مبارك هدفا لنوعين من المؤرخين: نوع لا يتحدث الا عن تحدياته الناجحة وأنجازاته وبطولاته ، ونوع يتحدث عن أخطائه الفادحة ،واحد يري فيه القائد الملهم والرجل الفذ والرمزالمقدس الذي لايمس ، وآخر يري فيه الظلم والقسوة والعناد والمرارة والبطش والدماء وحتي في حالة فراره بالموت من العقاب ، فلا بد من أستئناف الحكم عليه وأدانته.
ومبارك يستحق الرثاء والبكاء لانه أراد الكثير ولم يقدر الا علي القليل فهو كالملك المهزوم ،كالأسد المذبوح ، عظيم وأوجاعه عظيمة ، وهو مضيء وظلاله كثيفة ، تحدي الآلهة وقد حطمته الآلهة في الوقت والمكان المحدد لها حسب الخطة المحكمة ، فمن يقدر أن يحطم مبارك ، فلابد أن لم يكون الها.
الفردوس المفقود
ليس الدين الاسلامي كالمسيحية مجرد عقيدة دينية وعبادات وأنما هو يشكل أحد عناصر الهوية الوطنية أو القومية للعرب بمن فيهم غير المسلمين. وبما أن الاسلام دين ودولة ، فأن التاريخ والحاضر والاشكال الاجتماعية ، كلها تتخذ مصطلحات جديدة لاتقف معرفيا علي الأرض ذاتها التي تقف عليها الثقافة الشائعة. هكذا تصبح القوي العظمي شياطين ، وأصحاب المذاهب السياسية الأخري كفرة ، والفائدة المصرفية ربا وهي مصطلحات تطمس الهوية الأقتصادية للوطن المعني وطبيعة العلاقة بينه وبين المصارف العالمية والاحتكارات الدولية.
فقد نشأ الاسلام السياسي المصري منذ البداية في صورة البديل للمشروع الحضاري المصري ، وقد تمت هذه النشأة مع أزدياد محاصرة الحركات اليسارية في الشارع والجامعة وتعدد محاكمة التنظيمات المعارضة في السبعينات، ومنع فرص التعبير المغاير فتولد فراغ نظري وأيديولوجي بدت معه المرجعية الدينية المرجعية الوحيدة المتماسكة ، اضافة أن الحركة الدينية لم تعرف في بداية تأسيسها حرب أستنزاف مع السلطة ، بل تطورت في هدوء تام مكنها من بناء قواعدها ، الي أن جاءت محاكمة المتطرفيين، ومن ثم كان هذا النمط من الاسلام السياسي شديد الاغراء للشباب المتعطش للتعبير والمعرفة.
ويلعب التوقيت هنا كما لاحظنا دورا عربيا. فسبعينات الانفتاح وثروة النفط وحرب لبنان، ونهاية المشروع الناصري في مصر، وحرب أكتوبر/تشرين الأول التي أنتهت سياسيا بالصلح المنفرد مع اسرائيل ، والحروب الاسرائلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني اينما كان. وحروب الخليج وافغانستان ، علاوة علي الظلم الاجتماعي للشعوب العربية ، وحالة الانكساروالذلة والمهانة وموت الحلم واليأس من المستقبل للشباب المصري والعربي ، ساهم بشكل كبير الي الارتماء بقوة في احضان الاسلام السياسي بحثا عن النجاة في الدنيا والآخرة كملجأ أخير.
ولا تخلو جميع الاتجاهات السياسية في مصروالعالم العربي من الاسلام . والنظام المصري كان يعيد أنتاج الوعي الزائف الذي سبقته اليه تجارب أخري عديدة "بعلاج الداء بالداء" ويفسح في المجال لنوع آخر من "التدين" الاعلامي والرسمي متراجعا خطوات عن خطابه العلماني. ولكن هذا "التدين" لم يكن له رصيد ولا مصداقية ، وقد بدا في أعين الجماهيرساذجا بسبب التناقض الصارخ بين الدعوة اليه والعمل عكسه في وقت واحد.
والعلمانية في مصر أرتبطت بهيمنة الدولة الوطنية وسيطرتها علي المجتمع المدني ، ولكنها لم تخلق القوة الاجتماعية ولا حتي البني الذهنية القادرة علي أسنادها ، ولعل ذلك ما يفسروضع الهشاشة ، فلم تكن العلمانية تستمد شرعية وجودها من التأثيروالفاعلية ، وأنما من الموقف الايديولوجي للحاكم.
فقد حاربت الدولة الوطنية كل القوي السياسية في نفس الوفت ، ولم تفرز أية قوة سياسية يمكن أن تسند مشروع العلمانية ، وسقط مشروع الدولة العلمانية ، ولكن الاسلام السياسي لم ينهض مشروعا بديلا ، وأنما هو قد حارب الفراغ بفراغ جديد. ويقف المشروعان كلاهما عند نهاية الطريق المسدود.
واليوم مازال التساؤل مطروحا ويبحث عن اجابة من الباحثيين في مصر والعالم العربي:
هل يكفي القول بأن غياب "البديل" للنظام العربي الراهن هو الذي أفسح المجال رحبا لتعاظم الاسلام السياسي ؟
أم يكفي القول بأن المناخ الديني للمجتمعات العربية هو الذي حرث الأرض لنمو بذوره الراقدة تحت سطح التربة طول الوقت؟
أم يكفي القول بأن "الدين السياسي" أو سياسة الدين، هي ظاهرة عالمية ، ولسنا أكثر من أحد ملامح هذه الظاهرة ، وقد أكتسي الملمح بخصوصية دين الأغلبية المسلمة من العرب ؟
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :