المادة الثانية من الدستور
بقلم: حنا حنا
بدأ اللغط مرة أخرى وأخرى حول الماده الثانية من الدستور. وأرجو ألا أخرج عما التزمت به دائمًا فى كتاباتى من هدوء وموضوعية، ليعيننى الله.
فى دستور سنة 1923 كانت المادة الثانية تنص على "اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة والإسلام دين الدولة الرسمى". لعل الكثير لا يعرف أن من أصر على عبارة "دين الدولة الاسلام" هم المسيحيون. ولم يكن ذلك إلا احترامًا للأغلبية. وفى مقابل هذا النبل الأخلاقى من الأقباط لم يكن لهذه العبارة أى أثر عليهم سواء فى ممارسة شعائرهم الدينية أو مراكزهم القانونية أو مناصبهم الوطنية والرئاسية والسياسية.
كان الجميع مواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ولم يحدد المرشح إلا حزبه السياسى، ولم يكن للدين أى أثر فى الانتخاب. وكان الوفد صاحب الأغلبية فى أكثر الأحوال خاصة إذا كانت الانتخابات نزيهة.
جاءت ثورة 23 يوليو وألغت الأحزاب وفى أول انتخابات تالية كان عنصر الدين حافزًا على الدعاية الانتخابية. لم يجد الناخب الذى يفتقر إلى أى قسط من التعليم إلا المفاضلة تأسيسًا على عنصر الدين. وهنا بزغت لأول مره فى مصر الاتجاهات الدينية. كانت النتيجة أنه لم ينجح فى مجلس الشعب من الأقباط سوى واحد أو إثنان فقط على ما أذكر.
إزاء هذه النتيجة المجحفة بالأقباط أغلق عليهم الرئيس "عبد الناصر" بعض الدوائر منها دائرة "شبرا". كانت النتيجة أن إمتنع المسلمون عن التصويت وضحوا بالغرامة – آنئذ- والبالغة جنيهًا. من هنا بدأت روح التعصب فى أن تستشرى فى الشعب المصرى. كانت النتيجة أن قرر الرئيس "جمال عبد الناصر" أن يضيف عشرة مقاعد يملأها بنفسه ممن يختارهم. وكان أول إجراء فعلي لهذا القرار أن عيَّن ثمانية أقباط وإثنين مسلمين. ومنذ ذلك الحين والتمثيل بالنسبة للمسيحيين يصل إلى لا شئ أو بالقدر اليسير الذى يقرب أو يساوى لا شئ.
وقصة "السادات" مع الأقباط والبابا "شنودة" معروفة. وحين أراد "السادات" أن يضرب الناصريين أفرج عن المعتقلين الإخوان، والجماعات الإسلامية وأعلن بصراحة أو بمعنى أصح "ببجاحه" أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة. وبذلك فتح الباب على مصراعيه للنيل من الأقباط سواء فى أشغالهم أو تعيينهم فى أى وظيفة.
ومنها على سبيل المثال أن الزميل الدكتور "عوض شفيق" هو وإثنان قبطيان آخران كانوا أوائل كلية الحقوق وعين الثلاثة فى النيابة، ثم تحولوا للخدمة العسكرية كضباط إحتياط. وحين أنهوا مدة الخدمة وأرادوا أن يعودوا إلى مواقعهم التى عينوا فيها ألا وهى النيابة العامة كانت روح التعصب قد انتشرت ونمت وترعرعت فتنكرت السلطة بأنهم عينوا فى النيابة، نعم أنكرت السلطات هذا التعيين فكانت النتيجة أن إثنين ذهبوا إلى جامعات أخرى خارج مصر بخلاف جامعة الأسكندرية، أما الثالث فكان محظوظًا لأن والده كان ضابظ بحرية فى مركز مرموق فأعيد إلى وظيفته فى النيابة.
كانت هذه لمحة أو قطرة من السيل الذى بدأ ينمو ويترعرع ضد الأقباط. ولم يكن السند الوحيد فى كل هذا إلا عنصر الأغلبية. وأن المسلمين يشكلون أغلبية وهم أصحاب رأى الأغلبية، ومن ثم هم أصحاب القرارات سواء صائبة أو غير صائبة سواء كانت تلك القرارات مجحفة بالأقباط أم لا فهذا لا يهم. المهم أن المد التعصبى أخذ يستشرى عسى أن يدخل التاريخ ويقهر الناصريين ويستمر فى الحكم إلى ما لا نهاية خاصة أن اتفاقية إسرائيل ومن قبلها حرب أكتوبر قد أكسباه على المجال الدولى سمعة لم يحصل عليها زعيم عربى من قبل أو من بعد. إلا أن الأقدار كانت للزعيم المؤمن بالمرصاد فلقى حتفه.
كان من وسائل استقطاب المد الإسلامى أن عدل "السادات" عبارة "دين الدولة الإسلام" بأن أضاف إليها عبارة "والشريعة الاسلامية مصدر رئيسى للتشريع".
أراد الرئيس مبارك أن يحصل على كسب شعبى بعد ثلاث محاولات لاغتياله فعدل من الماده الثانيه لتكون "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع".
أعترض المسيحيون على تلك الماده فكانت من وسائل التهدئة أو التقية أن شرحوا للأقباط أن تلك المادة تخاطب "المشرع فقط". ولم يجد الأقباط بدًا من السكوت على مضد.
ولكن إذا بالمادة التى تخاطب المشرع تخاطب كل من هب ودب.
- وجدنا أن القاضي يبرئ أربعة قتله لأن القتيل قبطي.
- وجدنا أن القاضي لا يسمع شهادة قبطى فى مسألة إعلام وراثة لمسلم.
- وجدنا القاضي فى حالة ثبوت جريمة قتل إثباتـًا قاطعًا لا يحكم بالإعدام على الجاني لأنه لا يؤخذ دم مسلم بكافر. رأينا أن المتطرفين التجار وأصحاب المحلات المسلمين يعلنون بكل جراءة وبجاحة على محلات عملهم "لا وظائف للمسيحيين". رأينا فى المعركة الانتخابية أن المرشح المسلم يقول بكل سفه وقح "لا تنتخب المجوسى، لا نتنخب الكافر". رأينا كيف أن عقلية نابغة مثل الدكتور "عصام عبدالله" يضطهد ولا يرقى إلى درجة أستاذ لأنه مسيحى، وبذلك تُحرم مصر من أبنائها الأفذاذ. رأينا المد الإسلامى المتطرف يستشرى ويعمل بكل طاقته على تهميش المسيحيين واضطاهدهم وإذلالهم بكل الوسائل الغير مشروعة طبعـًا، وبعد ذلك لا يهم ما يصيب مصر من ضعف ووهن بسبب حرمانها من أبنائها الأفذاذ.
فى عهد مبارك كما يعلم العالم استشرى الفساد ونخر فى عظام مصر. وكان على الرئيس المخلوع أن يكسب عطف الشعب أو بأقل القليل يشغل الشعب عن الفساد والإفساد فلم يجد أفضل وسيلة إلا استعمال الأقباط كوسيلة يتلهي فيها المسلمون خاصة المتطرفون وساعد على ذلك تعصب العادلي وشهوته للجريمة، فتفنن فى تهجير الأقباط من المدن والقرى بعد تدميرهم اقتصاديـًا. ومن ثم تدور النزاعات والاتهامات والمنزعات والإجراءات والشعب فى سبات عميق على أثر تلك الإجراءات ويظل الفساد يستشرى فى أمان كامل من أن ينكشف أو يبعث على إفاقة الشعب من غفوته.
ولكن الأخطر من هذا جميعه أنه فى ذلك المناخ الفاسد والفاسق نمت روح التعصب نموًا لا يمكن أن يزول بين يوم وليلة.
ولكن هذه المادة الثانية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير أصبح لا محل لها بل هى لن تكون إلا بعثـًا لمناخ فاسد لا يحترم شريحة لا يُستهان بها من الشعب المصرى العريق. وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: لا يجوز لمعتنقى أى دين من الأديان أن يفرضوا أحكام دينهم على معتنقى دين آخر. وذلك بإطلاق فهو لا يجوز تحت أى ظرف من الظروف أو سبب من الأسباب، وإلا نكون بصدد شريعة الغاب.
ثانيًا: إذا كان المحك هو أن الرأى رأى أغلبية فنكون بذلك بصدد أزمة أخلاقية بمقتضاها تتحكم الأغلبيه تحكمًا غير منطقى وذلك بفرض أحكام دين لا يعتنقه الأقليه فيكون الأمر أمر قسر وقهر. وإذا كان الأمر كذلك فيتعين إعلان انسحاب الدولة المصرية من المواثيق الدولية والمعاهدات التى إلتزمت بها. وتتقوقع فى إطار منعزل لا يؤمن بأى مبدأ يتسم بالسمو إلا مبدأ التحكم فى الأقلية كما يشاءوا.
ثالثـًا: لا نقبل أن يفرض الأغلبيه فى أى دولة أوروبية أن يفرضوا أحكام الدين المسيحى على المهاجرين المسلمين. وإذا كانت الدول الأوروبيه تلتزم تلقائيًا بهذا المبدأ فليست مصر أقل حضارة أو أخلاقًا من أى دولة أجنبية، أو بأقل القليل يتعين أن تكون مصر كذلك، خاصة بالنسبة لشريحة لا يستهان بها من مواطنيها.
رابعًا: يتعين على مصر أن ترتقى إلى مستوى المبادئ التى ثارت من أجلها ثورة الخامس والعشرين من يناير. وهذا لن يتأتى إلا بمدنية الدولة.
خامسًا: إزالة المادة الثانية لن يدع مجالاً لأى من أساليب التعصب والعدوان والاعتداء على أقلية مبدأها السلام والمحبة والوئام.
سادسًا: من الوطنية ومن مبادئ إعمال المواطنه أن المواطنين سواسية لا فرق بينهم بسبب الدين أو الجنس أو اللون طبقَـًا للمادة أربعين من الدستور. يتبين من هذا أن المادة الثانية تتعارض تعارضًا صارخًا مع المادة (40) سالفة الذكر.
سابعًا: إننا نسعى جميعًا إلى إنشاء دولة علم وليست دولة جهل. ومن المعلوم أن تماسك المواطنين ووحدتهم وتآلفهم يجعل من مصر وحدة واحدة تعمل على وجود كيان دولى قوى ومتماسك. أما تفتيت الدولة بمادة مثل الثانيه فتعمل على تفتيت عناصر الدوله ومن ثم تعمل على ضعفها ووهنها وليس هذا هو المراد أو الهدف لأى مصرى. فقد شاهدنا ومارسنا ماذا تفعل الصراعات فى مصر خاصة الصراعات الدينية.
ثامنًا: الجماعات المتطرفة تتمسك بمبدأ دينية الدولة ليس من أجل مصر ورخاء مصر ولكن من أجل القفز على السلطة مع ما يحققه هذا من سياده وجاه وسلطان وهذا هو المراد بل هو الهدف الأول من دينية الدولة.
تاسعًا: من المبادئ – لا مؤاخذة – الإخلاقية: "حب لقريبك ما تحب لنفسك". وهنا يثور التساؤل: هل تحب أن يفرض على أى مسلم فى دولة أوروبية أن تطبق عليه أحكام دين تلك الدولة؟ بالطبع لا. لماذا إذن تريدون تطبيق أحكام دين على شريحة أصيلة من الوطن لا تعتنق ذلك الدين؟!
عاشرًا: إذا كان الهدف هو إرضاء المتطرفين، فهنا يكون مكمن الخطورة. ذلك أن الحاكم الذى يخاف المحكوم لن يحقق أى تقدم. ذلك أن الحاكم عليه مسئولية كبرى وهى تثقيف الشعب والارتقاء بمفاهيمه حتى ترتقي مصر وتحقق مكانتها بين الدول.
خلاصة القول من حق أى مواطن أن يعيش فى بلده كمواطن حر له الحقوق والواجبات التى تكفل لكل مواطن. وأن العلاقة الدينية – كما قالت الأستاذة "فاطمة ناعوت" عن حق- خط رأسى بين الإنسان والله. أما علاقة المواطنة علاقة أفقية بين الإنسان وأخيه الإنسان. ومن هنا يتعين فصل الدين عن الدولة شكلاً وموضوعًا.
والله ولى التوفيق.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :