شهداء تحت الطلب
بقلم: عيد اسطفانوس
مع أن حروف الجملة القصيرة التي قذف بها الصغير في وجهي خرجت من فمه ثقيلة مترددة، إلا أنني أحسست وكأنها رصاصات صوبت إلى صدري من سلاح آلي، اخترقت قلبي في مسار ملولب، تبعتها لحظة إظلام دامس هبطت على عقلي وكأن الشمس انسحبت في منتصف النهار، وحاولت استجماع قواي التي انهارت، لكن شُل لساني وانمحى من على ذاكرتي ـ أنا الشاعر ـ في تلك اللحظة العصيبة كل الحصيلة من تراكيب اللغة ومفرداتها التي حصدتها في نصف قرن، سألني الصبي ذو السنوات الثلاث (هي الناس .. ليه... خايفة .. ياجدو)؟
ومرت لحظة سكون وكأنها دهر، والصبي يبحث بنهم عن إجابة في عينيّ التي غامت، وأظنه استشعر من قسمات وجهي الذاهل حجم معاناتي، فرأف بحالي وحول عينيه عن عيني إشفاقا، لكن يقيني أنه نال إجابة شافية، فإنه لأمر جلل أن تدمع عينا جده ويعجز عن الكلام، ورغم جو مرح اصطنعته خصيصا لأجله (وكنا في السابع من كانون الثاني/يناير والمفترض أنه يوم عيد) لكن كانت مسحة الخوف والحزن الحائمة على وجه الصبي تصيبني بطعنة كل مرة أنظر فيها إلى وجهه البريء، وكنت قد فرغت لتوى ـ بمساعدته ـ من تركيب مزلاج جديد في خلفية الباب، التي لم يعد فيها مكان خال، بعد كل هذه المزاليج والسلاسل والعيون السحرية، وعندما تكتشف ان حصيلة حياتك هي العيش في مزرعة خوف هائلة، وأن ما سيرثه ابناؤك واحفادك ليس أكثر من محصولها الناتج منها بالضرورة، وهو الاذلال والعبودية ومهانة الصلاة تحت الحراسة، لكن طاقة النور التي انبلج منها هذا الشعاع الذي مس القلوب وفتح العيون كان معجزة لأنه مس القلوب فطرد الخوف، وفتح العيون فظهر الطريق، طاقة نور رأينا فيها طيف الحرية الذي غاب عن هذه الارض طويلا، رأيناه يتراقص فأمسكنا به جميعا شوقا وتوقا لحرية تشمل كل سكان المحروسة، وليس قسما منهم، لحرية تظلل الجميع وليس قسما منهم، وشعار 'ارفع رأسك أنت مصري' وليس شعار قسم يرفع أما الباقون فيبقونها على حالها فساعة الخلاص لم تحن لهم بعد، لكنها حانت الآن،
وان كنت قد تساءلت في طرحي السابق عما حدث في ميدان التحرير ومن هؤلاء، ولم أجد حرجا من الاعتراف بقصور قدرتي على الاستكشاف المبكر لنوعية النيران التي كانت تسري تحت الرماد، إلا أنني في هذه المرة أدعي بكل ثقة أنني أعرف جيدا ماذا حدث وأعرف جيدا من هؤلاء، فمن هم أمام ماسبيرو الان هم أهلي من المصريين الشرفاء الذين دفعوا ثمنا مضاعفا في كل ثورة، وكانت الدفعة الاخيرة من دمائهم في الليلة الاولى من كانون الثاني/يناير هي الانذار الذي عجل بضرورة قيام ثورة، ثورة على عهود وأنظمة واحكام واشخاص وافكار وقوانين ودستور وبقية القائمة السوداء التي ذاقوا فيها ومن خلالها الظلم والجور والاضطهاد والعنت والفرز والتمييز،
ذاقوا ما لم يذقه شعب على مدى التاريخ كله، ولقد ارتهنوا وظلموا من حكامهم وشركائهم في الوطن (المتطرفين منهم) وصار إذلالهم وسيلة تسلية يومية، قتلا وحرقا وتحرشا وتحريضا بكل السبل بالدستور والقانون والتعليم والثقافة، ولم يجدوا من يدافع عنهم حتى من أبناء جلدتهم المتحالفين مع النظام وأدواته، وهم من كانوا ضمن هيكل الدولة الفاسد، وكانوا جزءا من تلك الصفقة المشينة فلم يستقل وزير أو يحتج ممن تولوا الوزارتين اليتيمتين التي كان يرفضها الاخرون متأففين، وزارات المخلفات وسرقة المعونات، وان الاوان آن لأن تعتذر الدولة المصرية عما أصاب هؤلاء من ظلم بين، وآن الاوان أن تفتح تحقيقات في كل الجرائم التي ارتكبت في حقهم لعقود طويلة حرموا فيها من نصيبهم العادل في وطن هم ملاك أصليون له، ولا يستطيع كائن أن يشكك في عقد ملكيتهم الموثق بالجغرافيا والتاريخ والعقيدة والتراث، ولقد استبيحت دماؤهم وأعراضهم وأرضهم بتأويلات فاسدة من سلطة فاسدة، اتخذت من المتطرفين وسيلة مشينة لتحقيق أهدافها، وها نحن نرى نهاية الظلم والفساد، وها هم المصريون يكتشفون بأنفسهم مدى التغرير الذي تعرضوا له لنصف قرن.
إن نوعية الهتافات الخطرة التي خرجت من الحناجر في لحظات الصراخ من الجروح الغائرة لهي تعبير فطري وإن كان غير مشذب، لكنه يوضح بجلاء مخزون الظلم والقهر والحرمان الذين عانوه لقرون طويلة، وعلى كل المصريين أن يعوا أن العيش المشترك ليس منحة يتفضل بها قسم على قسم كبر عدده أو صغر، لكنه ضرورة لا بديل لها إلا الحل المدمر للجميع وهو تشظي هذه الارض المباركة، إن العيش المشترك (وليس التعايش على مضض) هو ضرورة حتمية يجب ان تظل نصب اعين الجميع، خصوصا هؤلاء الذين لازالوا يعيشون في الماضي، مستحضرين منه نماذج عفا عليها الزمن وتجاوزها العصر، واذا كانت المادة الثانية من الدستور ستعلي مكارم الاخلاق فأهلا بها، أما إذا كانت لقهر أعراق كما استغلها النظام السابق والمحسوبون عليه لتمزيق وجدان المصريين، فهي غير مرحب بها، ثم من قال ان الدستور الوضعي يحمي الدستورالالهي، واذا كانت المادة الثانية هي إشارة لاحترام عقيدة الاغلبية ضمن احترام لكل عقائد البشر، فاهلا بها، أما اذا كانت للتعالي على عقيدة الاقلية فهي غير مرحب بها، ويجب أن يفيق المصريون جميعا والانتباه لما يحاك لهم لتدمير انجاز أقلق كل النظم الدكتاتورية في العالم العربي، وسوف يبذلون الغالي والنفيس لتشويه ثورتهم بإثارة الفتن بينهم حفاظا على أنظمة تهتز تحتها الارض اهتزازا، ولا أظن أنها مصادفة ان يتجمع ملايين الاقباط أمام أشرس جهاز أهانهم وأهان عقيدتهم وأهان ثقافتهم والتحريض عليهم وفعل كل الموبقات بهم ليضمن استمرار اللعب على شعور الاغلبية، وليضمن في الوقت نفسه استمرار الفساد في كل ربوع الدولة المصرية، وليظل نظام رخو جاثما لأكثر من ثلاثين عاما على صدورنا.
وإنه آن الاوان لأن يلفظ المصريون الطعم الذي طالما ابتلعوه بتلذذ، وهو وهم التعالي والتمايز العرقي على شركائهم في الوطن، هذا الطعم الذي طالما قدمه النظام لضمان إلهاء الاغلبية عن موبقاته، لذا ظل ما حدث في التحرير ناقصا، لكنه اكتمل بما حدث في ماسبيرو فلا قهر للأقليات بعد اليوم لا الأقلية الدينية ولا الأقلية السياسية، فلا دكتاتورية بعد اليوم لكيانات أو أفراد، والذين يملأون الشوارع بمنشورات التحذير والارهاب لفرض نمط أو نظام بعينه نقول إن دستورا لا يتوافق عليه الجميع من دون استثناء فهو دستور فاشل سيجرنا لما هو أسوأ، والذين يعتقدون أن دستورا يوافق عليه خمسون في المئة زائد واحد هو المطلوب، نقول لهؤلاء أنكم واهمون، والذين يعتقدون أن دستورا يكرس تعالي عرق على عرق أو فئة على فئة نقول لهم إن هذا الدستور سيكون تصريح دفن لهذا الوطن، إن هؤلاء الشباب وهم يستكملون مسيرة الثورة ـ وهم جزء من الموجة الاولى الراقية المتفتحة العاقلة يعرفون تمام المعرفة أن مشاهد هدم وحرق كنيسة بهذه الصورة البشعة، والتي تدل على كم الغل والحقد والكره المختزن من عقود طويلة،
والذي تم بثه باستمرارية موجهة وممنهجة في عقول غضة لأطفال أبرياء في مدارس عنصرية استولى المتطرفون عليها منذ السبعينات، وهي من فرّخت كل هذه الدماء، لذلك على كل المخلصين المؤمنين بالمساواة بين البشر ـ وأظنهم أغلبية كاسحة ـ أن يقفوا الآن في وجه فصائل شتى تحاول بكل الطرق سرقة انجاز هؤلاء الشباب، عليهم أن يهبوا ثانية لتصحيح مسارها قبل فوات الاوان، دولة مدنية ذات نظام يساوي بين البشر أجمعين ينام فيه الانسان آمنا مطمئنا على ماله ودينه وعرضه وثقافته ومستقبل أولاده وأحفاده، أما غير ذلك من أساليب الالتفاف والتمويه والتقية فستنتج مبارك جديدا وإن اختلف شكله وزيه، أما العبارات المكتوبة على صدور هؤلاء الشباب فهي التعبير الأمثل عن الحالة التي وصل إليها قسم من المصريين، حالة يستحيل معها استمرار الحياة بنفس النمط لذا كانت العبارة شهداء تحت الطلب أي الموت أهون من الحياة في مذلة وقهر، وهي طبيعة المصريين كلهم وان كانوا قد استكانوا قليلا، لكنهم على عهد أجدادهم دائما سائرون وثائرون.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :