الأقباط متحدون | الثورة المصرية: حضارية.. مدنية .. تعددية
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٠:٣١ | الثلاثاء ٨ مارس ٢٠١١ | ٢٩ أمشير ١٧٢٧ ش | العدد ٢٣٢٦ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

الثورة المصرية: حضارية.. مدنية .. تعددية

الثلاثاء ٨ مارس ٢٠١١ - ١٤: ٠٤ م +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: فرانسوا باسيلي
وقف الخلق ينظرون جميعًا.. كيف أهدم قواعد الظلم وحدي..
هكذا راحت مصر الجديدة تتحدث عن نفسها.. هذه المرة على لسان شباب جدد لم يعرف أحد في النظام ولا خارجه أنهم موجودون، فكانت صدمة هائلة لهم أن الجينات الحضارية بالغة القدم، ذات الطاقة الخلاقة الهائلة، ما تزال حية فى دماء ملايين الشباب المصري الأصيل، الذي يحمل كل ملامح وموروثات، وطاقات عبقرية الشخصية المصرية الحميمة القديمة المتجددة المتأججة.

وقد وقف هذا الشباب على نفس الأرض في ميدان التحرير في قلب القاهرة- في قلب "ممفيس" على ضفاف نفس النيل، الذي قام أجدادهم ببناء أول حضارة، وأول دولة في تاريخ البشرية عليها. هم  نفس المصريين الذين قادهم الملك "مينا" موحد القطرين قبل أكثر من خمسة آلاف ومائتي سنة، ليؤسس بهم أول دولة على الأرض، فيما كان بقية خلق الله في أركان المعمورة، يعيشون قبائل وجماعات وعشائر هائمة متنقلة متحاربة، تقتل وتحرق ولا تؤسس حضارة ولا مدنية، ولا علمًا ولا فنًا، واستمرت هذه الدولة قائمة على أرض مصر تضبط إيقاع البشر والحجر والنهر والزرع، ناهضة حينًا ومنحدرة حينًا- حرة حينا ومستعبدة حينًا، محتضنة ومستوعبة وهاضمة لكل من حضر إليها لاجئًا أو غازيًا، وتتوالى على مصر عصور المجد وعصور الانحطاط حتى تصل بنا إلى آخر الفراعين الذي ظل يحكم مصر ثلاثين عامًا، وكان يريد المزيد له ولأولاده من  بعده، في عصر من عصور الانحطاط هو الأسوأ منذ المماليك بلا شك. فإذا بشباب مصر يثورون ثورة أدهشت العالم أجمع، بل أدهشت آباءهم أنفسهم. وكما أدهش المصريون القدماء العالم حين ابتكروا فكرة الدولة ووضعوا قواعدها ومدوا على الأرض سطوتها ومجدها- أدهش أحفادهم العالم حين ابتكروا أساليب جديدة لمعارضة الدولة، والصمود أمام سطوتها وتفكيك آلياتها القمعية الرهيبة، وأجهزة بطشها الجبارة، وقد فعلوا هذا بشكل سلمي سحري في بساطته وبهائه وفي جماله وعذوبته "وخفة دمه".
   
لقد ثار المصريون بطريقة مصرية خالصة لا يثور بمثلها بشر آخرون. نعم هم تبعوا أخوانهم شباب "تونس" الرائع، الذي كان له الريادة في الثورة الشعبية ضد طاغية عربي اضطروه إلى الفرار، ولابد من تقديم فروض العرفان والتقدير والزهو لهؤلاء الشجعان الفرسان، وأولهم روح الشهيد "بو عزيزي" الذي أشعل في جسده النار انتفاضًا لكرامته، فأشعلها في الجسد العربي كله انتفاضًا لكرامة عربية مهانة منذ عقود. ولكن المصريون الذين استخدموا نفس "الفيس بوك" و"التويتر" الذي استخدمه التونسيون، سرعان ما منحوا ثورتهم طابعها المصري الخالص، وابتكروا وأبدعوا أساليبًا وأليات حققت لهم النصر الهائل، وشدت أنظار العالم إليهم في انبهار وإعجاب، ويمكن تلخيص خصائص الثورة على الطريقة المصرية في التالي:

حضارية
الصورة المدهشة الأوسع لهذه الثورة أنها كانت حضارية بكل ما تعنيه الكلمة من معان. فقد كانت منذ أول يوم – الخامس والعشرين من يناير – سلمية، كما راح يهتف المتظاهرون كلما حاول أحد أن يلجأ إلى أي نوع من أنواع العنف، ولو كان يضرب بكفه على سقف سيارة، كما قال أحد المتظاهرين، ولم يقع العنف سوى من طرف رجال الأمن المركزي، الذين دربهم النظام على معاداة المواطنين وإذلالهم وترويعهم، ورأينا في يوم الثورة الأول كيف سار مئات الآلاف، في مسيرات سلمية بديعة في القاهرة والإسكندرية، وعدد من المحافظات الأخرى، رفعوا مطالب مشروعة ومهذبة لا تهين أحدًا، منها "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" ولكن النظام الذي ارتاع لخروج هذا العدد الهائل من الشباب في أنحاء متعددة من مصر فقد اتزانه، وبدأ في استعمال الخشونة غير المبررة مع جماعات مسالمة، لا تفعل سوى المسير والهتاف ورفع الأعلام واللافتات، بل حمل الكثير من الشباب مئات من الورود، راحوا يقدمونها لرجال الأمن، ورأينا صورًا لبعضهم يحتضون الجنود، ولكن النظام الشرس الذي أعد ما يقرب من المليونين من الجنود في جهاز الأمن المركزي- الذي هو في الواقع جهاز أمن الرئيس والنظام- لجأ إلى ما اعتاده من الشراسة والعنف ضد المسيرات، وصلت إلى حد الانطلاق بسيارات الأمن هائلة الحجم بسرعة كبيرة لدهس المواطنين، وصاحب هذا استخدام الرصاص المطاطي ثم الرصاص الحي وهو ما أدى إلى استشهاد ما يقرب من أربعمائة شهيدًا، ووجود أكثر من مائة جثة لم يتم التعرف عليها.
   
مع العنف الهائل من قبل رجال وجنود وبلطجية النظام- ولا أعرف نظامًا آخر في العالم استخدم بلطجية بشكل منهجي ورسمي، كما فعل نظام مبارك- اضطر الشباب إلى الدفاع عن أنفسهم- وخاصة في جمعة الغضب حيث قلبوا وأحرقوا سيارات الأمن التي كانت تدهسهم، وردوا على الرصاص بالحجارة والمولوتوف، وتظهر الصور والفيديو لقطات مدهشة تسجل شجاعة وبسالة، وجسارة شباب مصر الذين لم يهابوا الموت ولم يردعهم الرصاص.. كلها – شكرًا للتكنولوجيا- موجودة الآن على اليوتيوب، لكى تتعلم منها الأجيال القادمة، ولكي تكون وثيقة حية تشهد على لحظة باهرة من تاريخ مصر المدهش. أما أكثر الدلائل على مدى تحضر هذه الثورة فنجده في ذلك المشهد الفريد في اليوم التالي لإزاحة مبارك، واحتفال الثوار بانتصارهم التاريخي، ثم اختتم اليوم بدعوة الثوار بعضهم لبعض أن يعودوا غدًا لميدان التحرير، للقيام بتنظيفه وغسله وإعادته إلى حالة أجمل وأنظف مما كان عليها، وبهذا يشهد العالم بأسره أول ثورة في التاريخ "تنظف وراءها" بعد يوم واحد من انتصارها.

مدنية.. تعددية
   
من أهم خصال هذه الثورة المصرية الخالصة، مدى انعكاس مفهوم وواقع التعددية في القائمين بها، فقد بدأها الشباب من كافة الأطياف، بلا قائد وبلا مجلس قيادة، ولكن بعشرات من القيادات الشبابية ومعها الآلاف من الشباب المتحمس الواعى الفاعل الجسور. وجاء معظم هؤلاء من الطبقة الوسطى المتعلمة بل والمثقفة، شبابًا وشابات، بلا أيديولوجيات حادة أو متطرفة يمينًا أو يسارًا، بلا انتماء لأحزاب أو تيارات أو جماعات، تجمعهم فقط رغبة عارمة للانتفاض لكرامتهم، ولإسقاط الواقع الفاسد الذي يرزح فيه آباءهم ثلاثين عامًا هي كل عمر هؤلاء الشباب، الذي سرعان ما عرف بـ "ورد الجناين"، وهو تعبير مصري شعبي بديع ومدغدغ لأجمل المشاعر، وبعد نجاح الثورة وظهور بعض هؤلاء الشبان والشابات في القنوات التليفزيونية، أدهشونا بمدى وعيهم وثقافتهم وأدبهم وظرفهم وتواضعهم، وإصرارهم على تحقيق مطالبهم، واستعادة كرامة شعبهم. فقط استمعوا إلى الشابة الرائعة "أسماء محفوظ" على اليوتيوب وهي تدعو في تلقائية وعاطفة جياشة وفكر فريد؛ شباب مصر أن ينزلوا معها يوم 25 لإعلان أن "الشعب يريد إسقاط النظام"، لتعرفوا بعض الجوانب الباسقة لهذا الشباب المدهش.
كان الخطاب الثوري خطابًا مدنيًا وطنيًا بامتياز، لم نسمع فيه الشعارات البائسة أو المطالب الطائفية أو الفئوية، التي أفرزها النظام الساقط، لم ترتفع شعارات دينية أو يسارية أو يمينية أو حزبية، ارتفعت فقط شعارات تطلب الحرية والكرامة والعدالة، المبادئ الإنسانية الشاملة التي يطالب بها الشباب دائمًا في كل ثورات العالم وفي مختلف بلدانه، واللافت والجميل أن هذا الشباب خرج غير عابئ بمواقف ونداءات وتعليمات كافة القيادات "الحكيمة"، والقديمة والمترهلة سواء كانت سياسية أو دينية، فقد رأينا القيادات الدينية الرسمية- إسلامية ومسيحية- تأخذ جانب النظام حتى فيما هو يتهاوى، في استمرار لما تعودت عليه من ممارسات قديمة كانت تخضع معها لرغبات ونزوات وضغوطات النظام، بدلاً من أن تقف الموقف المضاد الشجاع، الذي تلزمها به تعاليم الدين الذي تتحدث باسمه- فقامت مشيخة الأزهر وجماعة الأخوان المسلمين والقيادة الكنسية للأقباط الأرثوذكس والبروتستانت، بإصدار التصريحات التي تدعو الشعب إلى عدم الخروج لمسيرة يوم الثورة المبارك، فى الخامس والعشرين، ولكن الشباب – لحسن الحظ ولحسن الوعي ولنقاء الضمير- قرر عدم الامتثال لهذه النداءات التي لن يغفرها التاريخ، وخرجت بالآلاف دون رعاية أو حماية القيادات "الحكيمة"، لتثبت للشعب والتاريخ أنها أكثر حكمة بكثير وأنها الأكثر وعيًا والأصدق مع نفسها ومع ربها، وعندما كلل لها النصر أو كاد، هرعت هذه القيادات والجماعات الدينية وراءها لتحصد بعض ما حققه الشباب المتمرد، فإذا بها تغير من موقفها، وتعكس نداءاتها، ولكن لا قيمة لمواقف تأتي بعد زوال الخطر- وإنما تقاس مواقف الرجال والنساء حينما يختارون الحق ويعلنونه في اللحظات الخطرة، التي قد يدفعون فيها ثمنًا باهظًا لمواقفهم هذه.
   
وقد جاء هذا لصالح مصر ولصالح هؤلاء الشباب – فلابد أن تكون ثورتهم هذه ليس فقط ضد النظام السياسي الفاسد البليد الذي كان يجثم فوق صدورهم، ولكن ليعلنوا بها أيضا تحررهم من قبضة القيادات والتيارات الدينية، التي كانت تتسلط عليهم تسلطًا لا حق لها فيه- وكان سلطانها قد تغول وتوغل في كافة مناحي الحياة المدنية، فأدخل الكثيرين البسطاء في غيبوبة من الدروشة الدينية تقاعسوا معها عن العمل الفعال الجاد، وارتضوا فيها بالطغيان والفساد، حتى ثار الشباب لكي يخلص نفسه، ويخلصهم من حالة العبودية السياسية والدينية معًا، قائلين لقد خلقنا الله أحرارًا فلن نخضع أو نستعبد بعد اليوم.
   
وهكذا شاهدنا صورًا بديعة لشباب مسلمين وأقباط يدًا في يد، يدافعون معًا عن مطالبهم المشروعة ويستشهدون معًا برصاص البطش والطغيان، ويحتفلون ويرنمون ويصلون معًا في نفس المكان، في خلال الثورة، وبعد انتصارها في الميدان، الذي جمعهم ووحدهم وحررهم، ومنحهم هويتهم الواحدة الواعدة، في أنهم جميعًا مصريون قبل أي شئ آخر.
وقد اشترك الشباب من كافة أطياف وفئات المجتمع، وانضم بعد يوم الثورة الأول – في الجمعة التالية – شباب من الأخوان ومن الأقباط ومن الأحزاب ولكن بشكل فردي، ولعل المظاهرة الوحيدة التي كانت لها طابع ديني قام بها التيار السلفي في الإسكندرية في أحد الأيام – بينما استمرت كافة المظاهرات في الإسكندرية والقاهرة والسويس والمحلة والمنصورة، وغيرها في طابعها المدني العام الجامع لمختلف الطوائف والاتجاهات.
المرح والإبداع هما صفتان من صفات الثورة المصرية المدهشة، ويحتاجان لمقال مستقل.




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :