الأقباط متحدون | أنس الوجود
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ١٩:٤٤ | السبت ٢٥ ديسمبر ٢٠١٠ | ١٦ كيهك ١٧٢٧ ش | العدد ٢٢٤٧ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

أنس الوجود

السبت ٢٥ ديسمبر ٢٠١٠ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: عبدالمنعم عبدالعظيم
قصة عشق قديمة تربطني بـ"أسوان" بوابة مصر الجنوبية؛ فقد عايشت بناء السد العالي فخر أمجاد "مصر" الحديثة.. عايشت العمَّال في أخلد ملاحم البناء، وعشت الحلم الذى تحوَّل إلى حقيقة. وها نحن على مشارف الاحتفال باليوبيل الذهبي للسد العالي.

في "أسوان" أشعر بكياني، وأشعر بمصريتي، وأحس بمدى التضحيات التي بذلها عمَّال "مصر" بناة السد..

"أسوان" سونو أو السوق، وفى مقابلها جزيرة الفنتين أو الفيل. وبالرغم من أن "أسوان" ليس بها أفيال، إنما ترجع التسمية إلى أن هذه الجزيرة كانت مركز تجارة العاج، وسن الفيل الذي كانت الجزيرة مركزًا لتجارته.

كانت هذه الجزيرة هي مدينة "أسوان" القديمة، وقلعتها كانت مركز مراقبة بلاد "النوبة"؛ تخوفًا من أي اعتداء من الجنوب.

كان القدماء يعتقدون أن النيل ينبع من صخور الشلال الأول، وأن الإله "خنوم" الذي كان يمثِّل برأس كبش، كان يشرف على فيضان النيل هناك ويتحكم فيه. ثم اعتقد القوم في فترة لاحقة، أن النيل ينبع من مكان ُيدعى "أباتون" في جزيرة "بيجة" القريبة من جزيرة "فيلة".

كانت جزيرة "فيلة" المستلقية وسط مياه النهر عند الجندل الأول، هي النقطة التى كان يعتقد قدماء المصريين أن النيل ينبع منها. ومن نقطة البداية هذه، انطلقت "إيزيس" مع زوجها الطيب "أوزوريس" الذي خرج ينثر الخير والحب بين الناس، ويعلِّمهم كيف يزرعون الأرض، ويحترمون قانون السماء..

كلمة "فيلة" جاءت من كلمة "فيلاي" بمعنى الطرف أو البداية، باعتبارها بوابة "مصر". وكتبها الإغريق "فيلا" بمعنى "المحبوب" أو "المكان المرغوب". وكان المصريون القدماء يحجون إلى هذا المكان باعتباره منبع الخير، وتقديسًا للإلهة "إيزيس" و"أوزوريس" وابنهما "حورس".

تحكى الأسطورة المسجَّلة على جدران معبد "إيزيس" هذا، إنه في قديم الزمان كان يحكم هذه البلاد ملك اسمه "جب"، وكان له ولدان من الذكور، واثنتين من الإناث. وزوَّج الملك ابنه "أوزوريس" من أخته "إيزيس"، كما زوَّج ابنه "ست" من أخته "نفتيس".

ولأن "أوزوريس" كان طيب القلب عادلاً؛ ملَّكه أبوه الوديان الخضراء والسهول والأنهار. أما "ست" الذي كان شريرًا حاقدًا، فقد ملَّكه أبوه الاراضي الصحراوية القاحلة والرمال القفراء.

وكان "أوزوريس" موسيقيًا بارعًا أحبه الناس؛ فحقد عليه أخوه "ست"، وتآمر مع آخرين فصنعوا له صندوقًا من الذهب الخالص بحجم "أوزوريس" الذي كان طويل القامة. وزعم في حفل أقامه أنه يهديه لمن يتسع له. وعلى أرض جزيرة "فيلة" كانت الواقعة التي لم يتسع الصندوق فيها لغير "أوزوريس". وعندما استلقى فيه، أسرع رجاله بإغلاق الصندوق وإلقاءه في النيل، وراحت أمواج النهر تتقاذف الصندوق حتى بلغ مصب "رشيد"؛ فتقاذفته أمواج البحر حتى بلغت به شواطىء "ببلوص" بـ"لبنان"، حيث توفَّى داخل الصندوق.

جدَّت "إيزيس"، المخلصة الوفية، في البحث عن زوجها. واستخدمت علوم السحر حتى عرفت مكان الصندوق؛ فركبت سفينة انطلقت بها إلى "ببلوص"، حيث حلمت أن الصندوق داخل شجرة أرز كان الملك قطعها وأقامها عمودًا في قصره. وتحايلت "إيزيس" على ملك "ببلوص" بعد أن كشفت له عن شخصيتها؛ فسمح لها باسترداد الصندوق. وعندما حل عليها المساء، نامت فوق تابوت زوجها؛ فجاءتها الرؤيا بأنها حملت من روح زوجها "أوزوريس". وعندما عادت إلى "مصر"، اختفت ومعها الصندوق في جزيرة "فيلة" خوفًا عليه من "ست" الذي قتله من قبل. وظلت مختفية حتى أنجبت "حورس". بينما كان "ست" في هذا الوقت يواصل البحث حتى عثر على جسد "أوزوريس" وقطَّعه إلى ست عشرة جزء بعثرها على جميع  مقاطعات "مصر"، وعادت "إيزيس" لتواصل البحث عن هذه الأشلاء حتى عثرت عليها ماعدا جزء واحد هو قدم "أوزوريس" اليمنى، التى استقرت في جزيرة "بيجة" المقابلة لجزيرة "فيلة". وكانت المياه تنساب من بين أصابعها محمَّلة بالخصب والطمى لتنمو ربوع "مصر" من فيض النهر. ومنذ تلك اللحظة، صار "أوزوريس" ملكًا للموتى يتولى حسابهم في الآخرة.

أما "حورس" الابن، فقد غذَّت فيه أمه روح الانتقام؛ فخاض صراعًا مع عمه حتى انتصر عليه، واعتلى عرش أبيه، وتُوِّج بالتاج الأبيض في مقر حكمه بالمدينة الصغيرة على جزيرة "فيلة" المقدسة.

تلك هي معابد "فيلة" التي نقلت بمعاونة "اليونسكو" بعد بناء السد العالي إلى جزيرة "إيجليكا" الأكثر ارتفاعًا، بعد أن تعاقب عليها الغرق والظهور. فقد فقدت المدينة مبانيها المبنية بالطوب اللبن عقب بناء خزان "أسوان".

كان أول من بنى معبدًا لـ"إيزيس" هو الملك "طهارقة"، أحد ملوك النوبة السفلى، ثم بنى بعده الملك "نكتانبو" لها معبدًا، ثم يأتي بعد ذلك الرومان، فبنوا المعابد تمجبدًا لـ"إيزيس".
وخلال العصر الإسلامي، وخلال أيام الدولة العباسية، ظهرت قصة "أنس الوجود" المُستوحاة من قصص "ألف ليلة"، تقول الحكاية:
كان لأحد الوزراء ابنة تُدعى "زهرة الورد" غاية في الجمال والحسن، أحبها أحد حراس القصر واسمه "أنس الوجود". أحبت فيه الفتاة الأخلاق النبيلة التي لم تجدها في أبناء الملوك والأمراء، ووجد أبوها أن العلاقة غير متكافئة؛ فطرد "أنس الوجود" من أرض "فيلة"، وحبس ابنته في القصر، وأحاط الجزيرة بمجموعة من التماسيح حتى لا يقترب منها "أنس الوجود".

وأخذ "أنس الوجود" يجوب البلاد بحثًا عن حبيبته "زهرة الورد"، وراحت البلابل تتغنَّى له، والطيور تتراص فوقه لتكوِّن مظلة تحميه من الشمس. واستأنست له الوحوش حتى وصل إلى الجزء الشرقي من شلال جزيرة "فيلة"، وظل الفتى يواصل الغناء ويحكي حكايته، حتى آنست له التماسيح، وحمله تمساح كبير على ظهره وأتى به إلى شاطىء الجزيرة. وكان لابد أن يرضخ الوزير في النهاية ويزوِّج الفتى "أنس الوجود" من ابنته "زهرة الورد"؛ إذ وجد فيه إنسانًا يتسم بالأخلاق العالية، والنبل والشهامة. وهكذا سُمِّى المعبد بقصر "أنس الوجود".

ولقصر "أنس الوجود" مع أمير الشعراء "أحمد شوقي" حكاية رواها شاعرنا الكبير "فاروق شوشة" بجريدة الأهرام، يقول:
في الرابع والعشرين من مارس عام ‏1910،‏ زار الرئيس الأمريكي "تيودور روزفلت" مصرـ وهو جد الرئيس "روزفلت" الذي كان رئيسًا لـ"أمريكا" في أثناء الحرب العالمية الثانية. وخطب في الجامعة المصرية بدعوة من رئيسها الأمير "أحمد فؤاد"، فأساء إلي "مصر" في حديثه‏،‏ وهاجم الإسلام‏.‏ وكان قد خطب قبل ذلك في "السودان"،‏ فأثنى علي الحكم الإنجليزي في "مصر"‏.‏ مخالفًا بذلك تقاليد الحرية التي نادت بها "أمريكا" بعد تحرُّرها من الاستعمار‏؛‏ فرد عليه الشيخ "علي يوسف"- صاحب جريدة المؤيد- بمقال تاريخي،‏ ثم انتهز "أحمد شوقي" فرصة زيارة "روزفلت" لمعابد "أنس الوجود" التي أطلق عليها معابد "فيلة"؛‏ فأراد أن يعطيه درسًا في احترام "مصر" والكشف عن عظمة تاريخها وآثارها‏،‏ وخاطبه بقصيدة مدويةـ وهو الشاب صغير السن الذي يعمل موظفًا في قصر الخديو رئيسًا لقلم الترجمة، ولابد له أن يراعي آداب الوظيفة، وألا يشتط في مهاجمة ضيف الخديو، وألا يُسمعه ما لا يليق‏-‏ مخالفًا نهج الحكومة التي لم ترفع صوتها بالاحتجاج علي ما قاله "روزفلت"‏.‏ وهي قصيدة كانت بالنسبة لي الوقفة الثانية مع "شوقي" واهتمامه بالآثار المصرية من ناحية‏،‏ واندفاعه في الإبانة عن وطنيته واعتزازه بهذه الآثار باعتبارها تجسيدًا لهذه الوطنية‏،‏ وهو يقول‏:‏
أيها المنتحي بأسوان دارًا‏:‏ كالثريا‏،‏ تريد أن تنقضا
اخلع النعل‏،‏ واخفض الطرف‏، واخشع‏:‏ لا تحاول من آية الدهر غضا
قف بتلك القصور في اليم غرقى:‏ ممسكًا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا‏:‏ سابحات به‏،‏ وأبدين بضا
مشرفات علي الزوال وكانت‏:‏ مشرفات علي الكواكب نهضا
شاب من حولها الزمان وشابت‏:‏ وشباب الفنون مازال غضا
رب نقش كأنما نفض الصانع منه اليدين بالأمس نفضا
ودهان كلامع الزيت‏ مرت‏:‏ أعصر بالسراج والزيت وضا
وخطوط كأنها هدب ريم‏:‏ حسنت صنعة وطولاً وعرضا
وضحايا تكاد تمشي وترعي‏:‏ لو أصابت من قدرة الله نبضا
ومحاريب كالبروج بنتها‏:‏ عزمات من عزمة الجن أمضى
شيدت بعضها الفراعين زلفى:‏ وبني البعض أجنب يترضى

وأنا أستأذن في توجيه الاهتمام إلي جانبين مهمين في هذه القصيدة‏،‏ أولهما‏:‏ امتلاء أبياتها الأولي بأفعال الأمر التي يخاطب بها ضيف البلاد العظيم الشأن‏، عندما يقول له‏:‏ اخلع نعلك حتي لا تطأ هذا المكان المقدس عند المصريين‏،‏ واخفض طرفك وأنت تنظر إليه وتتأمله‏،‏ واخشع في نظرتك تقديرًا لعظمته وخلوده‏،‏ وقف وشاهد هذه المعابد التي هي في حقيقتها قصور توشك أن تغرق في اليم‏،‏ واليم هو الاسم الذي أطلقه المصريون علي النيل فهو ليس نهرًا عاديًا،‏ ولكنه يم أي بحر شاسع‏.‏ وهي التسمية التي جاء بها القرآن الكريم في خطابه إلي أم "موسي" وهو طفل رضيع أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه أذى الفرعون حتى ينجو‏.‏

الجانب الثاني هو براعة "شوقي" التي لا تجاري في تصوير هذه المعابد والآثار، وما امتلأت به من فنون بديعة‏:‏ نقشًا ودهانًا وخطًا ورسمًا ونحتًا وبناءً وتصويرًا‏.‏ وهي لوحة من لوحات "شوقي" المصوِّر البارع الذي تجلت عبقرية ريشته الشعرية المماثلة لهدب الريم أي رمش الغزال الذي صوَّره في قصيدته‏.‏

وتمضي القصائد الجميلة بأبياتها المحكمة‏، وكلما تقدَّمنا فيها خطوة‏،‏ هزتنا كلمات "شوقي‏" أمير شعراء العصر الحديث‏،‏ وهو يقول‏:‏
صنعة تدهش العقول وفن‏..‏ كان إتقانه علي القوم فرضا. وشوقي يستعمل كلمة الفرض بالمعني الديني‏،‏ مثلما نقول الصلاة فرض، والحج فرض، والزكاة فرض‏.‏ فالذي أدهش العالم كله‏‏ والعقول جميعًا من إبداع المصريين في تشييد ما شيدوه، كان نتيجة لأن تفانيهم في إنجازه كان بمثابة الفرض الديني الذي تنهض به الأرواح قبل الأجسام‏,، وتنجزه العزمات قبل الأيادي‏.‏

ثم يقول "شوقي"‏،‏ علي عادته في تلخيص المشهد الشعري الذي صوره‏،‏ فأبدع تصويره‏،‏ واستخلاص الحكمة الحية والعظة المستلهمة منه‏:‏
يا قصورًا نظرتها وهي تقضي‏:‏ فسكبت الدموع والحق يقضي‏
أنت سطر‏ ومجد مصر كتاب‏:‏ كيف سام البلى كتابك فضا‏‏
ولابد أن دموع "شوقي" على هذه الآثار المصرية العظيمة الغارقة في مياه النيل‏،‏ والتي أوشكت علي السقوط والزوال‏-‏ فبعضها يتماسك ممسكًا بالبعض الآخر‏-‏ هذه الدموع وهذا الإعزاز الكبير بمجد "مصر" في صفحة ناصعة من صفحاته، كان وراء الصيحة العالمية التي قامت بها "مصر" في عهد عظيم وزراء ثقافتها الدكتور "ثروت عكاشة"، وبمساعدة اليونسكو‏‏؛ لإنقاذ هذه الآثار‏ ورفعها من الماء‏، وإعادة تشييدها من جديد علي الهضبة بمنحى من مياه النهر.‏ ولسان "شوقي" ينطلق بيته الجميل الذي يجب أن يترنم به كل شاعر مصري ينبض قلبه بمحبة هذا الوطن‏:‏
وأنا المحتفي بتاريخ مصر‏:‏ من يصن مجد قومه صان عرضا‏‏




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :