حول الاعتكاف الجديد للبابا شنوده
يكاد لا يوجد رجل دين مسيحي أشاد معتدلون مسلمون به وبحكمته وبوطنيته مثل البابا شنوده الثالث، وفي الوقت نفسه تكاد لا توجد شخصية دينية معاصرة هاجمها مسلمون متطرفون وأهانوها وكالوا لها البذاءات والسفاهات والاتهامات مثل البابا شنوده الثالث. وجد الرجل دوماً نفسه بين نقيضين أحدهما التف حوله وأشاد به ومجد شخصيته الجذابة وقدمه على أنه نموذجاً للقائد الواعي والمواطن الصالح بينما اتخذه الأخر عدواً لدوداً وحط من قدره وحمله مسئولية كل المشاكل الطائفية التي تعاني منها مصر منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. مع الانقراض المطرد في فئة المعتدلين والنمو الكبير في فئة المتطرفين بدأت تغيب تدريجياً عن مسامعنا كلمات الإطراء التي اعتدنا سماعها بحق البابا شنوده وبدأت تحل محلها كلمات الهجاء والذم والشتائم.
لم يكن طريق البابا شنوده خلال الأعوام التسعة والثلاثين التي تولى فيها منصبه كرأس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية سهلاً، فقد صادفت الرجل مصاعب لم يواجهها إلا القليلين، مصاعب كانت قادرة على إرباكه والحط من عزيمته والتأثير على إرادته. ولكن البابا شنوده احتفظ في كل المتاعب والألام التي واجهها بروحه العالية وبصفاء ذهنه وبعزيمته القوية. ورغم أن البابا شنوده عُرِف ببراعته في التعامل مع المسئولين المصريين لحل مشكل الأقباط، إلا أنه لجأ للصمت والاعتكاف والابتعاد عن وسائل الإعلام في مقره بدير الأنبا بيشوي عدة مرات على مدار العقود الأربعة الماضية. ارتبط الاعتكاف بمشاكل كبيرة ومعقدة واجهها الأقباط. يقول البابا شنوده عن لجوئه للاعتكاف في حوار مع جريدة الجمهورية القاهرية بتاريخ 22 نوفمبر 2009 "أما في المشاكل التي اذهب فيها إلى الدير أذهب وتطول مدتي.. وتلك معناها ان هناك مشكلة.. لا اعرف ان اجد لها حلاً.. فاقول له يارب أنت الذي تحلها." ويؤكد البابا في حوار قديم أجرته معه السيدة منى الشاذلي لبرنامج العاشرة مساء أنه لا يعني بصمته الضغط على الحكومة لحل مشاكل الأقباط، ولكنه يقصد الصمت للضغط على السماء لكي تتكلم حين لا تصبح هناك فائدة من كلامه شخصياً.
كان الاعتكاف الأشهر للبابا شنوده حدث في عصر الرئيس السادات حين ألغى البابا احتفالات عيد القيامة عام 1980 اعتراضاً على الوضع السيء للأقباط عندئذ. لم تكن علاقة البابا شنوده بالرئيس السادات أبداً على ما يرام لأن السادات تسبب بمتاعب كثيرة للأقباط منذ جاء إلى السلطة عام 1970. كان توجه السادات الإسلامي البحت مصدراً رئيسياً لمشاكل الأقباط، وكان إطلاق الرئيس أنور السادات يد جماعة الإخوان المسلمين المتطرفة في المجتمع المصري دلالة على التوجه الإسلامي المتطرف لنظامه، إذ بدأ السادات عندئذ بالتعاون مع نشطاء الإخوان في تنفيذ مخطط أسلمة المجتمع المصري والتي كان من مظاهرها تغيير الدستور والنص على أن الإسلام الدين الرسمي للدولة وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وإعلان الرئيس السادات بأنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، وإحلال الولاء الوطني والقومي بالولاء الإسلامي، وتحويل التعليم إلى ما يشبه التعليم الديني، وإجبار النساء والفتيات على ارتداء الحجاب، واستبعاد الأقباط من مؤسسات الدولة.
من الاعتكافات الشهيرة الأخرى التي قام بها البابا شنوده ذاك الذي لا يزال يتذكره الكثيرون والذي كان عندما فشلت كل محاولاته لاسترجاع السيدة وفاء قسطنطين من قبضة قوات الأمن المصرية التي كانت تحتجزها بعد إعلان إسلاميين عن تحولها للإسلام وإعلان رجال دين مسيحيين عن نجاحهم في إقناعها بعدم التحول عن المسيحية. أدرك البابا عندما لم تف قوات الأمن بوعود عديدة بإطلاق السيدة قسطنطين أن المسئولين يتلاعبون بمشاعر الأقباط. ولم يكن أمام البابا من خيار عندها إلا الصمت والاعتكاف في الدير للإعراب عن غضبه. وقد انتهى اعتكاف البابا عندئذ بعد ظهور السيدة وفاء قسطنطين الذي تم بعد تدخل رئاسي مباشر.
جاء اعتكاف البابا شنوده الحالي بعد أحداث العمرانية التي هاجمت خلالها قوات الأمن مبنى كان الأقباط يزمعون تحويله إلى كنيسة وقتل خلالها قبطيين وجرح المئات. من غير المعروف الأسباب المباشرة التي أدت لقرار البابا بالاعتكاف في الدير. من المستبعد أن يكون الاعتكاف بسبب الهجوم الوحشي لقوات الأمن على أقباط العمرانية لأن البابا لو أراد الاعتكاف للاعتراض على أحداث العمرانية لاعتكف بعيد وقوع الأحداث مباشرة. وربما يمكن أيضاً استبعاد أن يكون الاعتكاف بسبب عدم الإفراج عن المعتقلين الأقباط الذين تحتجزهم قوات الأمن منذ أحداث العمرانية لأن الاعتكاف تزامن مع الإفراج عن سبعين من المعتقلين.
جاءت أنباء اعتكاف البابا شنوده الحالي بعيد ساعات قليلة من مطالبته الجريئة والرائعة بحقوق دماء القبطيين اللذين لقيا مصرعهما على أيدي قوات الأمن ومن إعلانه غير المسبوق أن دماء الأقباط ليست رخيصة للسكوت عليها. فهل لحديث البابا شنوده عن حقوق دماء الأقباط علاقة بالاعتكاف؟ من المحتمل أن تصريحات البابا لم تلق مردوداً جيداً لدى المسئولين المصريين كما لم تجد مردوداً جيداً لدى المسلمين المتطرفين الذين وصفوها ربما عن جهل وربما عن سوء نية بأنها دعوة للثأر والانتقام من قوات الأمن رغم أن البابا أوضح أن المطالبة بحقوق دماء الضحيتين ستكون قانونية بحتة.
من المؤكد أن هناك من الأسباب القهرية التي تطلبت اعتكاف البابا، ومن المؤكد أن هناك مشاكل عميقة قد نكون على وعي بها وأن هناك مشاكل أخرى ربما أكثر عمقاً بقيت في طي الكتمان. من المؤكد أن هناك ضغوطاً رهيبة على البابا لتقديم تنازلات تتعلق بحقوق الشعب القبطي، ومن المؤكد أن هناك محاولات حكومية مصرية لتحميل الأقباط مسئولية أحداث العمرانية رغم أنهم كانوا الضحية البريئة المجني عليها. لا يساوروني شك في حكمته وفي اختياره للأسلوب الأمثل للتعامل مع الوضع الراهن للأقباط، ولا يساورني الشك في أن البابا الذي تتطلب منه الظروف الراهنة أن يدافع عن الأقباط لن يتنازل أبداً عن حقوقهم، فالأقباط الذين هجرتهم بلادهم وعاملتهم في العمرانية كالمجرمين واللصوص لم يعد لهم من يلجأون إليه إلا الكنيسة والبابا، ولا لوم عليهم. وأخيراً لا يساورني الشك في أن كل المعتدلين المنفتحين المتسامحين من كل الأديان وفي مصر وخارجها يساندون البابا شنوده بكل قوة حتى تنتهي الظروف التي أدت إلى اعتكافه.
نقلاً عن إيلاف
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :