الأقباط متحدون | النفسنة
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٢٠:١٩ | الخميس ١٦ ديسمبر ٢٠١٠ | ٧كيهك ١٧٢٧ ش | العدد ٢٢٣٨ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

النفسنة

الخميس ١٦ ديسمبر ٢٠١٠ - ٠٤: ١١ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

في سياق اللغة الجديدة التي أفرزتها العشرية الأولى في الألفية الجديدة، تبلورت في الشارع المصري مفردات كثيرة.. وماتت مفردات أكثر، فاللغة كائن حي، يولد وينمو ويترعرع ويشيخ ويمرض.. ويموت.

سمعنا واستخدمنا جميعًا ألفاظًا من نوع "التنفيض.. الهرتلة.. الكحرتة.. إلخ"، لكن ما استوقفني كثيرًا كان لفظ "النفسنة"، وبتقديري المتواضع، فإن تلك الذائقة الشعبية المصرية التي نحتت هذا التعبير أكثر دقّة في التعبير، ورشاقة في النطق من المعنى بالعربية الفصحى، التي لا أفهم لماذا نصّر على الكتابة بها ـ وأنا أولكم ـ رغم أن أحدًا لم يعد يستخدمها في الواقع؟
"النفسنة" ومن يبتلى بها يصبح "منفسن"، وهي ما تعرف اصطلاحًا بالشخص "السايكو" Psycho، أي المريض نفسيًّا، الذي يتلذذ بإيذاء الآخرين سواء باللفظ أو السلوك العدواني، أو الاستعلاء المبرر منه وغير المبرر.. لا تهم الدوافع، فالاستعلاء في نهاية المطاف شعور منبوذ، وسلوك غير متحضر.
مشكلة هؤلاء "المنفسنين" أنهم ـ لسبب أو آخر ـ راحوا يتكاثرون خلال هذه المرحلة من تاريخ المحروسة، فالمصري الذي كان سمحًا بشوش الوجه، و"فنجري بق"، و"فكهاني الكلام" أصبح عدوانيًا مستنفرًا حيال الآخرين، أي آخرين من أي نوع، وصارت مشاجرات الشوارع سمة من سمات مدن مصر عمومًا والعاصمة القاهرة على نحو خاص، ففي كل شارع هناك مشاجرة ليس بوسعك ـ كمواطن صالح ـ أن تتحرى سببها، وإلا ستصبح طرفًا فيها، وفي أضعف الأحوال سيضيع وقتك وربما حياتك في لحظة عبثية لا معنى لها.
هذا ناهيك عن مشاجرات وملاسنات ومهاترات أخرى تجري رحاها بين النخبة السياسية والفكرية والفنية عبر شاشات الفضائيات، مع الأخذ في الاعتبار هنا أن معيار النجاح الوحيد هو مدى قدرة مقدم البرنامج وصاحب القناة على إنتاج "معركة حامية الوطيس"، يظل غبارها في الأفق أطول فترة ممكنة.
ربما كنت في مقهى.. مطعم، أو حتى في حفل زواج أو أي مناسبة اجتماعية ستسمع حينها من بعضهن تعليقات على هذه المذيعة أو تلك الممثلة أو حتى الراقصة، تعرب فيها عن دهشتها لنجوميتهن، وتؤكد بعبارات سمجة ممطوطة أن ذوق الرجال تدهور لأبعد الحدود، وحينها عليك أيها المواطن الصالح أن تحشد كل قدراتك على ضبط النفس وكظم الغيظ، فتبتلع لسانك وإياك أن تكاشفها بحقيقة أنها هي القبيحة التي لو عرضت في سوق النساء لما استوفت حق "الأرضية"، أي تكلفة عرضها في السوق.. وله في خلقه شؤون.
في كل مهنة ابتداء بهؤلاء البسطاء الذين يمسحون الأحذية، وصولاً لكبار الساسة ورجال الأعمال ونجوم المجتمع، لا تتوقع سوى سماع أسوأ الآراء وأشدها تطرفًا لو سئل عن زميله أو جاره، سيقولها بصورة أو أخرى، ولن تكون بالضرورة بطريقة واحدة، وبغض النظر عن فجاجة العوام ودبلوماسية النخبة، فالمهم أن النتيجة واحدة، أن هذا الرأي صدر عن نفس مأزومة.. أو لنكن أكثر بساطة ونقول "منفسنة".
باختصار أصبحنا كمصريين من شتى المشارب، متربصين بعضنا ببعض، فإذا فشل أحدنا في محاولة أو تجربة عيرناه بذلك بفاحش القول، وإن نجح نسجنا من خيالنا مؤامرة محبوكة تعزو النجاح إلى جهة ما.. ربما كانت المباحث أو المخابرات مثلاً، وقد تكون إسرائيل والصهيونية العالمية، والمضحك هنا أن هؤلاء غالبًا لا يجيدون حتى صنع تلك المؤامرات، لأنهم أشرار سذَّج، تحكمهم غريزة الشرِّ وحدها دون خبرة، لهذا لا تصمد أي من مؤامراتهم مزعومة لخمس دقائق في مناقشة جادة.
أما الكارثة الحقيقية أن "المنفسن" لا يعترف بالمرض، بل ولا يعترف بأي شيء، فهو كائن عدمي، تحكمه ذهنية العبث، ويلجأ طيلة الوقت لما يطلق عليه أساتذة الطب النفسي "سلوك التبرير والإسقاط"، فهو مستعد بألف حجة وحجة، لإثبات أنه كان على صواب، ويمتلك بدل التبرير الواحد ألف وسيلة لكي يقنعك بصحة موقفه، بينما سيضعك في خندق "الأعداء المحاربين"، إذا لم تقتنع بمواقفه وآرائه، بل ولم تُبد الحماس الكافي لها.
وإذا راودتك نفسك الأمارة بالسوء أن تصارحه برأيك، فإنه سينقلب إلى وحش كاسر.. سيعصف بك ويُسقط على رأسك آلاف التُّهم، والمثير في الأمر هنا أن كل هذه الاتهامات لو تأملتها بقليل من التفكير، ستجده هو شخصيًّا أولى بها، وأكثر جدارة من الآخرين.
سألت أستاذ الطبِّ النفسي الكبير د. يحيى الرخاوي عما إذا كان المرض النفسي يمكن أن ينتشر بشكل وبائي، كالأمراض العضوية المُعدية، مثل الكوليرا أو أنفلونزا الخنازير؟ فرد بالإيجاب، مؤكدًا أن هذا حدث بالفعل بين شعوب كبرى كالألمان بعد الحرب العالمية الثانية، وساق الرجل بثقافته الموسوعية، عددًا من الأمثلة في دهاليز التاريخ وعلى امتداد خارطة العالم، ومن ساعتها رحت أسأل نفسي: هل أصبح المصريون الآن أمة "منفسنين"؟
مظاهر "النفسنة" التي باتت تحاصرنا أكبر وأخطر مما يمكن أن يتناوله مقال صحفي، بل لعلها ظاهرة تحتاج لدراسة اجتماعية ميدانية، يقوم عليها جيل جديد من الباحثين الذين خرجوا من "كمكمة التنظير" و"لعنة التقعر" التي ابتلى بها الباحثون الموظفون، فالأمر لم يعد مجرد انطباعات شخصية، فمعظم من يمكن أن تثق برؤيتهم من القابضين على جمر إنسانيتهم سيؤكدون لك أن الشعب المصري الصديق ليس في أفضل حالاته، وأنه الآن يعاني أزمة لا يمكن اختزالها في شخص، أو هيئة، أو عنصر بعينه، لكنها محصلة مناخ عام، أصبحت فيه "النفسنة" سلوكًا شائعًا، لدرجة أنك لو لم تكن "منفسن" فربما اتهمك هؤلاء "المنفسنين" بأنك أصبحت أنت "المنفسن".

والله المستعان
 




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :