انفجار الأقباط
نشرت صحفنا- صباح الأحد- مشهد العناق بين محافظ الجيزة وأسقف المحافظة، فى مشهد متكرر للعناق وللقبلات فى مثل هذه المواقف. كان الأسقف يترأس وفدا من القساوسة توجه إلى مكتب المحافظ ثم إلى مكتب مدير أمن الجيزة، لتقديم الاعتذار عما حدث من تجمهر قبطى يوم الأربعاء الماضى أمام مبنى المحافظة، قال أسقف الجيزة كلاماً طيبا ودوداً عن رجال الأمن والمحليات.
لكن ورد فى تصريحات الأسقف عبارة نشرتها «الأهرام» و«الجمهورية» و«الشروق» تقول «إن ما حدث كان نتيجة اندساس بعض الأفراد مع عناصر أخرى لا تنتمى إلى الأقباط لإشعال الموقف»، وأظن أن هذا الكلام بحاجة إلى توضيح وتدقيق.. ما هى تلك العناصر الأخرى.. من هم على وجه التحديد.. من أين جاؤوا وما الدور الذى قاموا به..؟!
أخشى أن يكون ذلك القول من باب تبرئة الجميع، وإلقاء المسؤولية على كيان آخر، قد تكون مؤامرة خارجية مثلاً أو شيطاناً رجيماً دخل بيتنا!!
أن تكون العلاقات طيبة بين المحافظ والأسقف وبين الكنيسة والحكم المحلى أمر مهم، باعتبار أن كلاً منهما فى النهاية مؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية، لكن زيادة الاعتذار والشكر، ومشهد العناق لا يجب أن ينسيانا ما حدث يوم الأربعاء، وهو أمر جلل، نفتقد فيه إلى كثير من المعلومات،
لقد عاتبنى هذا الأسبوع زميل صحفى لأننى وآخرين ظللنا ومازلنا ننتقد الإخوان المسلمين وتجاهلنا تنظيما آخر هو «الإخوان الأقباط»، ورددت عليه لو أن هناك تنظيماً بهذا الاسم، لأعلن عن نفسه، وإن كان تنظيماً سرياً فكشفه واجب جهات أخرى فى الدولة، وليس واجب مجموعة من الكتاب.. فهمت عتاب الزميل على أنه جزء من رد الفعل على ما حدث يوم الأربعاء.
مساء الأربعاء- يوم الحادث- قال محافظ الجيزة فى برنامج «العاشرة مساء» إن «تصريح المبنى المتنازع عليه هو «مجمع خدمات» وليس مبنى كنيسة، وأصدقه فى ذلك، لكن قال أيضاً المواطنون المسلمون «إن هذا المبنى معروف أنه يقام ككنيسة من البداية، الكل يعرف ذلك، مشهد المبنى أنه كنيسة بالفعل وليس مجمع خدمات» نحن إذن بإزاء حالة من التحايل لبناء كنيسة وهى حالة متكررة، إداريا يجب أن يحاسب المحافظ مسؤولى الحى، كيف تركوا إهدار القانون والبناء بغير رخصة..
هل أهملوا.. هل أغمضوا أعينهم عمداً.. هل استحت العين بعد إطعام الفم؟!
هذه كلها تساؤلات يجب أن تكون لها إجابة، وتسبقها تساؤلات أخرى.. هل طلب أقباط العمرانية أو أسقفية الجيزة بناء كنيسة،
ورفض طلبهم، فلجأوا إلى التحايل لبناء كنيستهم، أم أنهم لم يطلبوا وصار التحايل هو الأساس عندهم.. وإن كانوا طلبوا بالفعل فمن الذى رفض وعلى أى أساس كان الرفض؟!
نعرف أن فى المحليات والإدارات الهندسية بالأحياء من يزين للمواطن أن يخالف القانون فى البناء، على أمل أن تتم المصالحة فى النهاية بدفع جُعل من المال رسمياً، وطبعاً قبل ذلك جعل غير رسمى، هل حدث شىء من هذا فى واقعة العمرانية وهل.. وهل؟! هذه التساؤلات تحتاج تحقيقاً على قدر عال من الشفافية والنزاهة تقوم به جهة محايدة فى الدولة.
وقد أبدى السيد محافظ الجيزة موافقته المبدئية على تحويل المبنى إلى كنيسة فى حالة استكمال الأوراق وشكره الأسقف والوفد الكنسى على تلك «الأريحية»، وإذا كانت القضية استكمال أوراق، فلماذا كان التصعيد من البداية؟!
السؤال هنا موجه إلى رجال الكنيسة وإلى المحافظة.. والواضح أن فكرة القانون وسيادته واحترام مؤسسات الدولة ومراعاة اختصاص كل منها ليست واردة، فقد وجدنا الوفد يطلب من المحافظ ثم من مدير الأمن، الإفراج عن المحتجزين، رغم أن الأمر كله فى يد النائب العام، أقصد أمر هؤلاء المواطنين، ولابد أن يجرى تحقيق، فهناك شاب قتل من قتله وكيف قتل ولماذا؟! وهناك رجال أمن تم الاعتداء عليهم أيضاً وبعضهم أصيب ولابد من الحفاظ على حقوقهم ومعرفة كيف ومن أصابهم؟.
الأزمة كلها تكشف تراجع وضعف الدولة المدنية أمام الأمور المتعلقة بممارسة التدين فى مصر.. زوايا صغيرة تقام فى مداخل بعض العمارات ثم تتوسع فى قلب الشارع وتستعمل ميكروفونات، دون ترخيص قانونى، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها،
رغم أن علماء الدين يؤكدون أن الصلاة الجامعة لا يجوز أن تقام فى مثل هذه الأماكن، بل وجدنا عمارة فى قلب القاهرة مملوكة لمواطن مسيحى «كاثوليكى» وأمامها حديقة قديمة، فجاء من أزال الحديقة وأقام عليها زاوية للصلاة بميكروفون، احتج بعض السكان.
وأصدرت النيابة العامة قرارا بإزالة جميع الاعتداءات على الحديقة، وقال جهاز التنسيق الحضارى إن المبنى أثرى ولا يجوز الاعتداء عليه، ومع ذلك لا أحد يجرؤ على التنفيذ، لأن من قام بالاعتداء على الحديقة رفع شعار أن الدولة والأفراد المتضررين يريدون إزالة بيت الله..
فمن يجرؤ أيها السادة المواطنون.. الأقباط يرون ذلك جيدا ويعايشونه، فيتحايلون هم أيضاً، وأتصور أن ثقافة الأقلية وسلوكها تقع مسؤوليتهما إلى حد كبير على الأغلبية، إن تشددت الأغلبية صارت الأقلية أكثر تشدداً وإن تسامحت واستنارت، ازدادت الاستنارة لدى الأقلية، وحين كان هناك سعد زغلول وعدلى يكن كان ضرورياً أن يكون هناك أيضاً فخرى عبدالنور،
وإذا كنا نصر على اختراق القانون فى الزوايا غير المرخصة ومكبرات الصوت المخالفة لقواعد الدين وللقوانين المصرية كلها، وإذا كنا نتمسك أن تكون العيادات إسلامية والاقتصاد إسلامياً والأزياء والمعرفة كذلك، فحتماً سوف يكون هناك من ينادى بالعيادة القبطية والاقتصاد القبطى..
الأقباط ليسوا منعزلين عن روح المجتمع ولا عن ثقافته، ولنتذكر أنه حين توحش التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين واغتال اثنين من رؤساء الوزراء وقاضياً جليلاً ونسف ودمر ما شاء لقادته أن يدمروا وشرعوا فى اغتيال رئيس الجمهورية، ظهر تنظيم الأمة القبطية، الذى بدأ باكورة أعماله الإرهابية باختطاف البطريرك.
المصريون عرق واحد، لسنا متعددى الأعراق، كالهند مثلاً، ونحن جنس واحد، هكذا أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية، ونحن أيضاً نعتنق ديانتين توحيديتين، لسنا مجتمعاً متعدد الأديان كالهند أيضاً، المسلم يقول ويشهد «أن لا إله إلا الله»، والمسيحى يقول «إله واحد»، ومن ثم لا توجد خلافات جوهرية، ما يحدث هنا نتيجة عدم احترام القانون وعدم الإيمان بمدنية الدولة، وتلوث ثقافى شديد يعلى من التشدد والأصولية..
لدينا المتأسلمون والمتأقبطون، صحيح أنهم - هنا وهناك - قلة، لكنها قلة لديها القدرة على الضوضاء وإحداث الضجيج، بين حين وآخر، وقد يملك البعض إشعال النار، لكن لا أحد يمكنه التنبؤ بالمدى الذى يمكن أن تصل إليه النيران ولا الحريق الذى يمكن أن تحدثه، والإنقاذ هو فى إعمال القانون وتحقيق السيادة له، على الأرض وبين الناس جميعاً دون مجاملة أو تفريق، وحين تتوقف أشكال العدوان على الدولة المدنية بصرامة وحزم، فلن يكون هناك احتقان ولا احتدام طائفى.
عرف الأقباط تاريخياً بالقدرة على الصبر والتحمل، وأن يقع انفجار على هذا النحو، يعنى أن هناك ضغوطاً كثيرة وشديدة ينبغى أن تعالج، فالواضح أمامنا أن التشدد والسلفية يزحفان على المجتمع كله، وإذا كانت الكنيسة قادرة اليوم على التهدئة واحتواء المواقف الغاضبة، فقد لا يكون ذلك فى مقدورها غداً، ما لم نتدارك الأمر باسترجاع سيادة الدولة المدنية الوطنية.
نقلاً عن المصري اليوم
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :