المؤامرة البعثية - السعودية لتدويل القضية العراقية
بقلم: د. عبدالخالق حسين
يشترك حزب البعث والنظام السعودي بصفة مهمة جداً وهي عدائهما الشديد للديمقراطية وللشعب العراقي. فدستور حزب البعث ضد الديمقراطية، ويؤمن بتبني المؤامرات والانقلابات العسكرية للوصول إلى السلطة، وكذلك أثبت البعث عداءه للشعب بما ألحق به من دمار خلال عشرات السنين الماضية. أما الموقف السعودي الوهابي من الديمقراطية، فلا يحتاج إلى دليل، فهو نظام عائلي قبلي متخلف، وعداءه للعراق هو الآخر واضح منذ ولادة الحركة الوهابية وإلى الآن. ونظراً لكون حزب البعث أشرس قوة ضاربة للحركات التقدمية في المنطقة، اعتمد عليه النظام السعودي (وعدد من أجهزة المخابرات الغربية) خلال العقود الخمسة الماضية لتنفيذ مخططاته في تدمير العراق منذ ثورة 14 تموز 1958 ولحد الآن.
ففي عهد ثورة تموز قاد التحالف البعثي- السعودي، وقوى دولية وداخلية أخرى، مستفيدين من ظروف الحرب الباردة، حملة معاداة قيادة الثورة العراقية بذريعة التصدي للخطر الشيوعي ومنع النفوذ السوفيتي في المنطقة إلى أن نجحت مساعيهم بانقلاب 8 شباط 1963 الدموي. أما بعد تحرير العراق من نظام البعث عام 2003، فتعاون النظام السعودي مع فلول البعث على شكل تحالف غير معلن بين الإرهاب البعثي- القاعدي وبدعم سعودي ضد الشعب العراقي، والذي كلف شعبنا مئات الألوف من الضحايا والدمار لإجهاض العملية الديمقراطية. وفي هذه المرة رفعوا شعار مواجهة خطر الهلال الشيعي بدلاً من الخطر الشيوعي، وحماية العراق من النفوذ الإيراني بدلاً من النفوذ السوفيتي، ولكن في جميع الأحوال، كان السبب الحقيقي هو منع النهوض الوطني العراقي، وإجهاض الديمقراطية والإصلاح السياسي لمنع وصولهما إلى شعبهم.
وفي خلال حكم البعث كان تحالف السعودية مع البعث مباشرة، فساندوه في شن الحرب المجنونة على إيران، ولكن بعد 2003 ظهر البعث بتنظيمين: تنظيم عصابات الإرهاب البعثي- القاعدي، وتنظيم بواجهة ديمقراطية مشاركة في العملية السياسية باسم: "قائمة العراقية". فالمعروف لدى القاصي والداني أن "العراقية" هي الوريث الشرعي لحزب البعث، لأن معظم أعضاء وجماهير هذه القائمة هم إما من البعثيين السابقين الذين كانوا معارضين لصدام (وليس للبعث)، أو فلول البعث الصداميين الحاليين، متنكرين بلباس الديمقراطية، ولكن هدفهم الرئيسي هو عودة البعث للسلطة. وفي هذه المرة عن طريق صناديق الاقتراع والتحايل والتلاعب والابتزاز والتهديد، بنفس الطريقة التي اعتمدتها النازية الهتلرية لاستلام السلطة عن طريق الانتخابات. ولذلك فمنذ تأسيس قائمة "العراقية" قبيل الانتخابات الأخيرة، راحت الصحافة السعودية وجميع مرتزقتها من الكتاب العرب وبعض العراقيين، يروجون لهذه القائمة، ويعملون على تشويه سمعة القوائم المنافسة لها ووصمها بالطائفية والعمالة للنظام الإيراني، وأنها تسعى لتطبيق حكم ولاية الفقيه الإيرانية...الخ!!!.
وهذا لا يعني أن قائمة "العراقية" قد خلت من وطنيين مخلصين للقضية العراقية، إذ انضم إليها في مرحلتها الأولى عام 2004 عدد غير قليل من الكيانات السياسية والشخصيات الوطنية، بدافع جمع شمل العلمانيين الديمقراطيين في قائمة واحدة، لكون العراقية قائمة علمانية، فانضم إليها الحزب الشيوعي وشخصيات سياسية معروفة بوطنيتها، ولكن بمرور الزمن أنكشف الوجه الدكتاتوري البعثي الحقيقي لقيادة "العراقية" وإنفرادها بأخذ القرارات والتي كان معظمها لتخريب العملية السياسية، لذلك انسحب منها الشيوعيون والوطنيون الآخرون.
أما بتنظيمها الحالي الذي تشكل قبيل الانتخابات الأخيرة، فـ"العراقية" مازالت تضم في صفوفها عدداً غير قليل من المخلصين للوطنية العراقية والديمقراطية، كما ظهر ذلك عندما تمرد نحو ثلاثين نائباً من الكتلة على قرار قيادتهم في الانسحاب من الجلسة التاريخية للبرلمان مساء الخميس 11/11/2010، حيث أصروا على البقاء والمشاركة في تنفيذ ما تبقى من جدول أعمال الجلسة. وهذا دليل على وجود صراع بين جماعتين داخل الكتلة، واحدة تريد تخريب العملية السياسية، وأخرى تريد مصلحة العراق وشعبه. ودليل آخر على جود هذا الصراع هو ما أكده عدد من نواب الكتلة أن انسحابهم من الجلسة كان ناجماً عن سوء فهم، وأن الكتلة ستشارك في حكومة الشراكة الوطنية بفعالية. "وهذا يتناقض مع ما صرح به علاوي في مقابلة صحفية الجمعة (بعد يوم من الجلسة التاريخية العاصفة) قوله: "أن اتفاق الشراكة قد مات وانه يرفض المشاركة في حكومة برئاسة نوري المالكي."(تقرير بي بي سي يوم السبت 13/2010).
ومن كل ما تقدم، يظهر لنا بوضوح أن غرض الجناح الذي يقوده أياد علاوي في الكتلة "العراقية"، هو تخريب العملية السياسية عن طريق المشاركة فيها، فهو يعمل كحصان طروادة، وبدعم السعودية، ودول عربية أخرى، لتفجير الوضع من الداخل، ويتم ذلك بطريقتين: الأولى، طريقة المناورات السياسية البعثية الخبيثة التي برزت معالمها بشكل واضح من انسحابهم من جلسة البرلمان بعد أن تم لهم ما أرادوا من انتخاب أحد قياديهم (السيد أسامة النجيفي) رئيساً للبرلمان. والطريقة الثانية هي الإرهاب البعثي- القاعدي الذي يبدو أن له علاقة ببعض قيادي العراقية، لذلك نقرأ بين حين وآخر تهديدات علاوي بحرب أهلية وموجة جديدة من الإرهاب ما لم يستلم مقاليد السلطة.
دلائل على فشل "العراقية"
إن محاولة "العراقية" لإفشال الجلسة البرلمانية، وغيرها من محاولات سابقة لإجهاض الديمقراطية، باءت بالفشل الذريع بسبب يقظة وتصدي المخلصين في قيادة العملية السياسية، وبذلك فقد قاد علاوي كتلته إلى هزيمة ماحقة كما هو واضح من الأدلة التالية:
أولاً، رغم انسحاب معظم نواب كتلة "العراقية" فقد نجح البرلمان في الاستمرار بجلسته لبقاء أكثر من ثلثي أعضائه، وبذلك تم تنفيذ بقية جدول أعماله،
ثانياً، كشفت "العراقية" عن عدائها الصريح للكرد، إذ وقتت انسحابها لمنع إعادة انتخاب مرشح التحالف الكردستاني السيد جلال طالباني رئيساً للجمهورية لولاية ثانية، والذي تم انتخابه رغم محاولات العراقية لعرقلة العملية، وبذلك لا تستطيع العراقية أن تمن على السيد طالباني بأنها ساهمت في فوزه!!
ثالثاً، وبفوز طالباني بالرئاسة، قام بتكليف السيد المالكي لتشكيل الحكومة، وهذه ضربة أخرى لقيادة "العراقية"،
رابعاً، خطاب السيد أسامة النجيفي بعد فوزه رئيساً للبرلمان، كان مستفزاً للأكراد، ويدعو إلى التفرقة وليس إلى وحدة الصف التي يحتاجها العراق الآن وهو يمر في تاريخه العصيب،
خامساً، كان حضور أياد علاوي جلسة البرلمان بقيافة غير لائقة بشخص يصبو إلى تبوئ منصب رئاسة الحكومة، وفي جلسة برلمانية تاريخية، فقد حضر الجلسة بقيافة وكأنه جاء لخوض معركة كتلك التي كان يخوضها هو ورفاقه البعثيون في الستينات عندما كانوا يفرضون الإضرابات على طلبة الجامعة بالقوة عن طريق الملاكمات والمسدسات، وهذا دليل آخر على أن علاوي لم يتخلص من عاداته البعثية القديمة، فالطبع البعثي أقوى من التطبع الديمقراطي.
وهذه التصرفات غير اللائقة هي التي جعلت حتى أقرب حلفاء علاوي، مثل صحيفة الحياة اللندنية (السعودية)، أن تعترف بأخطاء علاوي، فنشرت تقريراً لمراسلها في بغداد، مشرق عباس، يوم السبت 13/11/2010، بعنوان: (المالكي أدار الأزمة بواقعية وانتزع الولاية ... وعلاوي عالج الأخطاء «الإستراتيجية» بأخرى «تكتيكية»)، اعترف فيه الكاتب بأخطاء علاوي القاتلة، ونجاح المالكي في إدارة الأزمة بكل اقتدار. (الرابط أدناه).
غضب السعودية من النجاح العراقي
ورغم كل المحاولات التخريبية التي قامت بها كتلة "العراقية"، المدعومة من السعودية، فقد نجح القادة العراقيون المخلصون في أخذ الخطوات الرئيسية لتشكيل حكومة المشاركة الوطنية. ويبدو أن هذا النجاح قد أغضب السعودية لعدم استجابة العراقيين لمبادرة الملك السعودي، وهذا واضح من المقال الافتتاحي لصحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، بقلم رئيس تحريرها السيد طارق الحميد بعنوان: (رسالة لمن يريد مساعدة العراق )، لم يستطع الكاتب إخفاء عصبيته وتوتره الشديدين حين كتب المقال، بسبب نجاح العراقيين في حل مشاكلهم بأنفسهم. وكالعادة اعتبر هذا الإنجاز الديمقراطي هو من صنع إيران ولصالحها، إذ يبدأ الكاتب مقاله بالقول: "رغم كل ما يحدث في العراق من تفاصيل تشكيل الحكومة، وخلافه، فإن الأمر الأهم والأكثر إلحاحا هو ضرورة العمل على حماية العراق من قادم الأيام، وضمان أن لا يصبح لقمة سهلة لإيران وحلفائها بعد الانسحاب الأميركي في 2011، وكذلك ضمان عدم تكرار ما حدث بعد الانتخابات الأخيرة وبقاء البلاد دون حكومة لمدة ثمانية أشهر، ناهيك عن تجاهل نتائج صناديق الاقتراع."
وهكذا يريد السيد الحميد أن يفرض الوصاية على العراق ويظهر نفسه أكثر حرصاً على نتائج صناديق الاقتراع، وسلامة العراق من قادته. ولتحقيق هذا الغرض يضع الحميد خطة كاملة فيقول لا فظ فوه: "فلا بد من إستراتيجية واضحة توضع من قبل العراقيين الحريصين (يعني من قبل قيادة كتلة العراقية طبعاً)، والدول العربية المعتدلة (يعني السعودية) بالتعاون مع الغرب، وعلى رأسه أميركا، لضمان عدم استمرار التغلغل الإيراني في العراق..."
ثم يقدم الكاتب نفسه كمحام يدافع عن حقوق "المسكينة" أمريكا فيقول: "واشنطن تقول إنها لم تضحِ بأبنائها وأموالها لتترك الإيرانيين يشكلون الحكومة العراقية، وهذه رؤية ناقصة، فالصحيح هو أنه يجب أن لا يترك العراق كله، وليس تشكيل حكومته فقط للإيرانيين. هذا من ناحية أميركا، وبالنسبة للعرب، وتحديدا السعوديين، والمصريين، فيجب ألا يضاف العراق إلى سلة همومنا الأخرى مثل لبنان. ولذا، فلا بد من العمل على إستراتيجية واضحة مع المجتمع الدولي، وتحت مظلة الأمم المتحدة، ومشاركة العراقيين الحريصين على بناء عراق مستقل وذي سيادة، ومن الآن، وليس الانتظار طويلا حتى يقع الفأس بالرأس." (طارق الحميد، الشرق الأوسط، 13/11/2010).
من نافلة القول، أن هذا الكلام لا يمثل رأي طارق الحميد فقط، بل هو رأي الحكومة السعودية، لأن شخصاً يحتل رئاسة تحرير صحيفة سعودية معروفة، لا يمكنه التصريح بمثل هذه الآراء وتوجيه اتهامات لقادة شرعيين لدولة أخرى، ما لم تكن بإيعاز من القيادات السعودية العليا.
فالنجاح الذي حققه البرلمان العراقي مساء الخميس 11/11/2010، في رأي طارق الحميد، كان بتخطيط الحكومة الإيرانية، وأن إيران هي التي تقوم بتشكيل حكومة عراقية تخدم مصالحها وليس مصلحة الشعب العراقي. أليست هذه دعوة صريحة لتدويل القضية العراقية وعزل السياسيين العراقيين (إلا من يسير منهم بركاب السعودية) من حكم بلادهم بذريعة البعبع الإيراني؟ إن السيد طارق الحميد يعرف جيداً أن الشعب السعودي المبتلى بنظام حكم قبلي، ممنوع عليه حتى التلفظ بكلمة الديمقراطية، و"وضع المرأة في السعودية أسوأ من وضع سجناء معتقل غوانتينامو" على حد تعبير الكاتبة السعودية المناضلة وجيهة حويدر، ولذلك فالسيد طارق الحميد هو آخر من يحق له أن يعطي العراقيين دروساً في الديمقراطية، ويعلِّمهم كيف يحكموا بلادهم، ويحموا شعبهم من "تغلغل النفوذ الإيراني"؟ إن حملة إثارة ما نسميه بإيرانوفوبيا باتت مفضوحة. ففي الوقت الذي أعلنا فيه مراراً وتكراراً موقفنا ضد التدخل الإيراني، كذلك نحن ضد تدخل السعودية، وأية دولة أخرى في الشأن العراقي. فالقادة العراقيون ليسوا أطفالاً لكي يطلبوا النصيحة والدروس من السعودية وإيران أو أية جهة أخرى. لذلك ننصح السيد الحميد ومن على شاكلته من مرتزقة السعودية أن يكفوا عن هذيانهم، ويتوقفوا عن التدخل في شؤون بلادنا، لقد عرف الشعب العراقي كيف يميز بين أصدقائه وأعدائه.
مستقبل علاوي و"العراقية"
لقد أثبت الدكتور أياد علاوي بتصرفاته الأخيرة أنه سياسي فاشل، إذ لم يتخلص من عاداته البعثية، فهو مازال يستخدم أساليب الابتزاز والتهديد والتآمر التي تعلمها من مدرسة البعث لتحقيق أغراضه السياسية. فهذه الأساليب المقيتة يمكن إتباعها في الأنظمة الديكتاتورية، والأحزاب السرية الشمولية، وعصابات المافيا، ولكنها فاشلة ومرفوضة ومستهجنة في الأنظمة الديمقراطية. لذلك فشل علاوي، وأوقع قائمته "العراقية" ومن يدعمه من الكتاب في إحراج شديد.
وكما بينا أعلاه، لا بد وأن يوجد في القائمة العراقية أعضاء حريصون على إنجاح العلمية السياسية كما أثبتوا ذلك باستمرارهم في الجلسة البرلمانية التاريخية. لذلك فهذه الجماعة تستحق كل الدعم والتشجيع، ومدعوة، إما أن يعملوا على تحرير الكتلة من الذين يخططون لتخريب العملية السياسية، أو الانسحاب منها والانضمام إلى كتل أخرى هي أقرب إلى تطلعاتهم الوطنية من "الكتلة العراقية".
كما ونناشد أولئك الكتاب العراقيين الديمقراطيين الأفاضل، الذين روجوا لكتلة "العراقية" لكونها علمانية، وكالوا أبشع التهم ضد منافسيها، نناشدهم أن يعيدوا النظر في مواقفهم من هذه الكتلة على ضوء ما حصل في تلك الجلسة البرلمانية من محاولات يائسة للانقلاب على البرلمان، ولعرقلة تشكيل الحكومة.فالمصلحة الوطنية فوق الأشخاص والفئات، وقد انكشفت حقيقة قيادة الكتلة للقاصي والداني.
أما الأستاذ نوري المالكي، رئيس الوزراء، وباعتراف عدد من خصومه، فقد أثبت أنه رجل المرحلة، إذ تعاطى مع الوضع المعقد بشعور عميق من المسؤولية العالية، وأدار الأزمة بكل صبر وحكمة واقتدار في مرحلة صعبة تتطلب الكثير، واستطاع في نهاية المطاف أن يكسب احترام واعتراف الأصدقاء والأعداء معاً، ويقود العملية لصالح الشعب والوطن.
مواد ذات علاقة بالموضوع:
طارق الحميد (الشرق الأوسط): رسالة لمن يريد مساعدة العراق
تقرير الحياة، مشرق عباس: المالكي أدار الأزمة بواقعية وانتزع الولاية ... وعلاوي عالج الأخطاء
العنوان الإلكتروني للكاتب
الموقع الشخصي للكاتب
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :