من أنا؟
يقلم: القمص أفرايم الأورشليمي
عندما نجلس إلى أنفسنا؛ وننسحب من ضجيج الحياة وصراعاتها؛ من أجل لقمة العيش وتأمين حياة كريمة، أو عندما نتغرب عن أوطاننا، أو حتى عندما يحس الإنسان بالغربة داخل بيته وبين أفراد أسرته، وبين أبناء مجتمعه، وعندما لا نجد القبول والتفاهم والاحترام والتقدير الكافي داخل الأسرة، أو العائلة، أو العمل، أو المجتمع، وعندما تهتز القيم ونجد البعض يقول أنا وبعدي الطوفان! لأبد أن نرجع إلى أنفسنا ونعاتبها، أو نحاسبها، أو نعلمها ونعاقبها، ونُصلح من أحوالنا، ونعرف من نحن، ونتصرف بناءً على المعرفة الواعية للنفس البشرية؛ بكل أبعادها الإنسانية، والروحية، والاجتماعية، والتاريخية، والنفسية.
إن التقدم العلمي الذي نراه في عالم اليوم، وسعينا إلى التعلم والمعرفة العلمية، لم يقابله بذل الجهد المطلوب لمعرفة نفوسنا البشرية، ودراستها، ومعرفة دوافعها، وأعماقها، وإن كان الفلاسفة منذ القديم طالبونا بمعرفة نفوسنا، وإنها بداية المعرفة الحقيقية. ولقد دعانا الإنجيل إلى معرفة أنفسنا وربحها، وقال لنا الرب يسوع المسيح "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يُعطي الإنسان فداءً عن نفسه". (مت16: 26) فنحن نحتاج أن نبحر كثيرًا في معرفتنا بذواتنا ومن حولنا ومجتمعنا، متى أردنا أن نسلك بحكمة، مفتدين الوقت، ورابحين أنفسنا والآخرين. وأحب هنا ان أبحث في الانتماء..
1-الانتماء إلى الذات الإنسانية:
لقد خلق الله الإنسان على صورته "وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض" (تك1: 26). أي خلقة كائن عاقل، حر، مسئول، يدرك الخير والشر، ويستطيع بإرادته الحرة أن يريد الخير ويفعله، ويدرك الشر وخطورته، ويبتعد عنه.
والرجوع إلى الذات فضيلة إنسانية، لنعرف جذورنا، والبيئة التي أثرت فينا بأخطائها ومزاياها، وأن نقبل أنفسنا كما هي، ونحبها ونعالج ضعفاتها، فربما نحمل الكثير من العوامل الوراثية التي لا نقدر على تغييرها، وأيضًا تأثرنا بالبيئة المحيطة بنا بما فيها من مزايا وأخطاء، وعلى كل واحد منا أن يسأل نفسه: هل أفكر وأسلك كإنسان عاقل حكيم؟ "لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح". (2تي3: 17). عندما ننتمي إلى ذواتنا الإنسانية نقبلها، ونحبها، وننميها، ونعالج ضعفاتها، فلا ننقسم على أنفسنا، ونحب كل نفس بشرية، وإن اختلفت عنا في الإيمان، أو الدين، أو الرأي، أو الجنس والعرق. نتعلم أن نحترم كل إنسان كخليقة الله، ونعرف معني الأخوة الإنسانية، ومساعدة المحتاجين والأيتام، والرأفة بالضعفاء، ومساعدة كل إنسان ليحيا حياة إنسانية كريمة، وهذا ما تفعله كل المنظمات الإنسانية في سعيها الحثيث نحو معالجة مشكلات الفقر والمرض والجهل والتخلف.
إن تفشي الأنانية كمرض يلازم التخلف، والقبلية، والعنصرية البغيضة، يجب أن نحاربه في أنفسنا قبل أن نطالب به الآخرين.
2- الانتماء المسيحي:
الانتماء إلى المسيح الرب المتجسد من أجل خلاصنا، وبنوتنا بالإيمان لله بالمعمودية، وشركتنا الحقيقية مع روح الله القدوس؛ تخلق منا أناسًا روحيين يحييوا لمن مات من أجلهم وقام، وتجعلنا سفراء للسماء "إذ نسعى كسفراءٍ عن المسيح كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2كو5: 20).
بالانتماء إلى المسيح والثبات فيه نأتي بثمار صالحة، ونحيا سعداء حتى لو تعرضنا للآلام والضيقات "اثبتوا فيَّ وأنا فيكم كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة كذلك أنتم أيضًا إن لم تثبتوا فيَّ، أنا الكرمة وأنتم الأغصان الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا". (يو15: 4- 5).
إن أشجار العنب تتعرض للتقليم حتي تأتي بالثمارالمرجوة، والمسيحية وحمل الصليب لا يفترقان، ويجب أن نعلم أن لكل شيئ انتهاء، وأنه عقب الصليب والجلجثة هناك أفراح القيامة والنصرة، أنت وأنا ننتمي للمسيح، ونحن أخوة فيه، وأعضاء في جسده الذي هو الكنيسة، ويجب أن نكمل بعضنا بعضًا، ونحب بعضنا البعض محبة طاهرة روحية "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعض لبعض" (يو13: 35).
إن انتمائنا للمسيح يجعلنا شهودًا له في كل مكان؛ بأفكارنا وسلوكنا وأعمالنا، ليرى الناس أعمالنا الحسنة ويمجدوا أبانا الذي في السموات.
3-الانتماء الأسري والكنسي:
إننا ننتمي إلى الأسرة والعائلة الصغيرة التي نشأنا فيها، وتهتم بنا وترعانا، ويجب أن نكون أوفياء للأسرة والعائلة، ومشاركين فيها بإيجابية وبذل وعطاء، لأننا نأخذ منها الاسم والرعاية والحماية. وكلما كانت الأسرة مُحبة، ومتفاهمة وصالحة، انصلح حال أفرادها، والعكس صحيح أيضًا. ولكن علينا أن نكون واعين أن الكمال لله وحده، وأننا علينا كلما نضجنا أن يساعد الواحد منا الآخر دون إجبار، وبمحبة وتعاون، وأن نشجع صغار النفوس، ونرمم الثغرات، وأن نصون أسرار بيوتنا، ونعمل على نمو السعادة فيها.
ومن الأسرة والعائلة إلى الكنيسة المحلية والجماعة الكنسية التي أنتمي إليها، والتي فيها رضعت لبن الإيمان؛ بالمعمودية والأسرار المقدسة، وفيها ننمو ونتقدس ونتعلم إيماننا الأقدس، وفيها نحس بالكيان المسيحي الصغير الذي يُضفي علي الهوية الروحية ويعلمني الالتزام بحياة ونمو وتطوير الجماعة الكنسية، والإحساس بأعضائها في آلامهم وأفراحهم. وعلينا أن نبتكر الوسائل المناسبة كجماعة الله في كل مكان، لكي يجد كل عضو فينا نفسه مشاركًا فاعلاً في حياة جماعته وتطويرها.. علينا ألا نمسك معاول النقد ونهدم بها بعضنا ككنيسة محلية، ومنها إلى الكنيسة الأم التي تحتاج لقداسة كل فرد فيها.. إن المؤمن الصالح الأمين هو سبب قوة لأعضاء الكنيسة الجامعة، والعضو الفاسد أو الذي يخطئ قد يجلب الأذى لكل كنيسته. وقد لاحظنا قديماً كيف أن بخطيئة "عخان بن كرمي" تأثرت كل الجماعة وانهزمت "فقال يشوع لعخان يا ابني اعط الآن مجدًا للرب إله إسرائيل واعترف له واخبرني الآن ماذا عملت لا تُخف عني" (يش7: 19). وببر القديس "الأنبا بولا" -أول السواح- كان الله يتراءف ويرحم العالم كله، كما قال الرب للأنبا أنطونيوس الكبير، إننا نحتاج إلى عشرة أبرار ليرحم الله مدننا، ولا نهلك كما فعل الله مع سدوم وعمورة.
4- الانتماء الوطني والقومي والإنساني:
إنني أنتمي إلى الأرض التي ولدت فيها وجادت عليَّ بجنسيتي وهويتي، وحسنًا جاء عن السيد المسيح "وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت و قام ليقرأ" (لو4: 16) لقد بدأ الرب خدمته في الناصرة أولاً وفي مجمعها الذي تعلم فيه طفلاً، لأنه أراد أن يعلمنا أن نبدأ بخاصتنا، وأهل بلادنا وأن نكون أوفياء لها، دون أن ننسى انتمائنا القومي، ودون تعصب وتحزب أعمى، بل بانفتاح على الجميع، فكما قام الرب يسوع بالخدمة في الناصرة فقد جاء إلى بلادنا -مصر الحبيبة- وباركها هو والقديسة مريم العذراء، والقديس يوسف، ووضع فيها الأساس المتين لكنيسة الإسكندرية، التي تنبأ عنها إشعياء النبي: "في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر و عمود للرب عند تخمها" (إش19: 19). وكذلك ذهب إلي السامرة يبشر أهلها بالإيمان، وحتى عندما لم يقبلوه هناك وطلب منه بعض التلاميذ أن يأمر بإحراقها، علمهم محبة الخطاة والامتداد بالمحبة والرأفة؛ بدلاً من الكراهية قائلاً أنه لم يأت ليهلك الناس بل ليخلصهم.. إن انتمائك لأرضك وتاريخ أجدادك، وحضارتهم العريقة، لا يجعلك تستعلي علي الآخرين، بل تحترمهم وتكون صورة مشرفة لله ولكنيستك واسرتك ومجتمعك ووتفاعل مع كل فرد فيه بإيجابية ومحبة وتعاون، وأن تكون أمينًا صادقًا كإنسان الله، هاربًا من الفساد، وبدلاً من أن تلعن الظلام تضيئ شموع المحبة والخير نحو الآخرين، وتقبلهم وتشجعهم، من أي دين وعرق ولون وجنس "وأما أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا واتبع البر
والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة".(1تي6: 11).
إننا نحتاج للوعي بمن نحن، وكيف نكون أناسًا روحيين بحق، نعمل على معرفة ذواتنا وإيماننا، ونكون أوفياء لأسرنا وكنيستنا وبلادنا ومجتماعتنا. نقبل الآخرين كما هم لا كما نريد أن يكونوا، ونحبهم وننفتح على الآخر دون أن نذوب فيه، أو نتخلى عن قيمنا ومبادئنا وأخلاقنا الفاضلة. بهذا نكون سفراء وأنوار في هذا العالم، ونعرف قدر أنفسنا دون كبرياء، أو صغر نفس، فنحيا سعداء؛ نحقق رسالتنا على الأرض دون أن نغفل لحظة عن الميراث السمائي المعد لنا في ملكوت السماوات.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :