منطقة القلالي "كيليا"
بقلم/ماجد كامل
نالت الرهبنة القبطية في منطقة وادي النطرون شهرة عالمية كبيرة وواسعة علي مر العصور ؛ فلقد أنقسمت الرهبنة في هذه المنطقة إلي ثلاثة مراكز هامة : المركز لأول هو منطقة نتريا Nitria والمركز الثاني هو منطقة القلالي Cellia و المركز الثالث هو منطقة الأسقيط Scetis . وفي هذا المقال سوف نركز علي منطقة القلالي بالتحديد ؛ فلقد زار هذه المنطقة عدد كبير من الرحالة نذكر منهم الأب "يوحنا كاسيان " الذي زار المنطقة حوالي عام 390/400 م . كذلك الرحالة "بلايوس " الذي زار المنطقة خلال الفترة من 388 – 399 م .
كذلك زار المنطقة القديس "جيروم " وكان ذلك عام 381م . كما زارها أيضا الرحالة "روفينوس " وكان ذلك حوالي عام 371م ومما قاله عن هذه المنطقة " يعيش في هذه المنطقة ( أي منطقة القلالي ) خمسة آلاف رجل بطرق حياة متنوعة ؛كل يعيش حسب قدراته واشتياقاته ؛فيسمح للشخص أن يعيش منفردا أو في شركة مع الآخرين . ويوجد سبعة خبازين في المنطقة يخدمون احتياجات هؤلاء الرجال واحتياجات المتوحدين في البرية القاحلة البالغين عددهم ستمائة متوحد ؛ وقد تغلغلت أنا إلي أعماق البرية الداخلية حيث توجد كنيسة عظيمة ؛وبجوارها ثلاث نخلات ؛وبجوار الكنيسة يوجد بيت ضيافة حيث يستقبل الضيوف القادمين لزيارة القلالي حتي يرحلوا بكامل حريتهم ؛ويسمح لهم أن يقضوا أسبوعا بلا عمل ؛أما بعد ذلك فيلتزمون بالعمل أما في الحقل أو المخبز أو المطبخ .وإن كان الضيف شخصا هاما يعطونه كتابا ولا يسمح له بالحديث مع أحد قبل الساعة السادسة ( ما يقابل الساعة الثانية عشر ظهرا حسب التوقيت الحديث ).
وفي وقت الساعة التاسعة "(مايقابل الثالثة ظهرا حاليا )" يمكنك أن تقف لتسمع صلوات التسبيح تصدر من كل مسكن ؛حتي ليعتقد الإنسان أنه أرتفع إلي الفردوس ؛وهم يجتمعون في الكنيسة في أيام السبوت والأحاد فقط . ويوجد ثمانية كهنة يخدمون الكنبسة ؛ والكاهن المكلف بالخدمة (صلوات القداس الإلهي) " لايشترك كاهن آخر معه الصلاة ؛ولا يعظ ولا يتقبل أعترافات وإنما يجلس الكل معه صامتين ؛ وإذا حدث وتخلف أحد منهم عن صلاة القداس يدركون في الحال أنه قد منعه عن الحضور عائق جسدي شديد .فيذهبون جميعا لزيارته ؛ليسوا معا في وقت واحد ولكن في أوقات مختلفة وكل راهب يأخذ معه ما قد يراه نافعا للمريض . ولا يجرأ أحد لأي سبب كان علي إزعاج جاره ما لم تكن زيارته لتقويته بالكلمة("أي بوعظه وإرشاده) "
وقصة تأسيس منطقة القلالي جاءت علي يد القديسين الأنبا انطونيوس والانبا أمون ؛ولقد ورد ذكرها في كتاب يعرف بأسم آباء الصحراء ؛ ونصها مترجم كالتالي " في أحد الأيام جاء القديس الأنبا أنطونيوس ليزور الأنبا آمون في جبل نتيريا وبعد أن تقابلا ؛قال الأنبا آمون للأنبا أنطونيوس : ببركة صلواتكم قد تزايد عدد الأخوة الرهبان لدرجة أن بعض منهم يريد أن يبني لنفسه مسكنا في مكان أبعد لينعم بالمزيد من الهدوء . فما هي المسافة التي تأمرون بها بين القلالي المستقلبية والموجودة حاليا ؟ فأجاب أنطونيوس قائلا :لنأكل الساعة التاسعة (ما يقابل الثالثة ظهرا حاليا ) وبعدها نخرج لنقطع الصحراء معاينين مكانا صالحا . وعنئذ مشيا في الصحراء حتي غروب الشمس .فقال الأنبا أنطونيوس للأنبا آمون :فلنصل وننصب صليبا في هذا المكان للذين يرغبون تأسيس قلاليهم الجديدة ؛هكذا فان رهبان نيتريا عندما يأتون لزيارة أخوانهم في كيليا يكون قد أكلوا طعامهم في الساعة التاسعة وبالمثل للذين في هذا المكان الجديد يحيث يستطيع كلاهما أن يتزاورا بكل سلام "" .كما قال عنها سوزومين " "وفي داخل الصحراء توجد منطقة تسمي القلالي لا يستطيع أن يري أحدهما الآخر حيث أن كل واحد يسكن بعيدا عن الآخر ويلتقون معا في بداية ونهاية كل أسبوع "ولقد قدر المؤرخون تاريخ بداية الرهبنة في منطقة القلالي عام 338 م تقريبا .
والمؤسس الحقيقي للرهبنة في منطقة القلالي هو "القديس مكاريوس السكنري " وهو غير القديس مكاريوس الكبير مؤسس الرهبنة بمنطقة شيهيت " وهو قديس ولد بمدينة الإسكندرية في مستهل القرن الرابع الميلادي من أبوين فقيرين ؛عمل في طفولته خبازا لفترة قصيرة ؛كما عمل فترة في مهنة الرعي ؛ وعندما كبر ترك مدينة الإسكندرية وتوغل قليلا في الصحراء حتي أعتكف في برية موحشة وهناك تدرب علي حياة النسك والتقشف ؛وكان يمضي ليله كله في الصلاة والتسبيح ؛ ولقد انتشرت سيرته سريعا وذاعت شهرته الفائقة في الزهد فهرعت اليه جماعات من النساك وألتفوا حوله ؛وكانوا يعيشون حياة أنفرادية في قلالي مستقة حتي عرفت المنطقة كلها بمنطقة القلالي " القلاية كلمة عربية مشتقة من كلمة اليونانية Cellia ومعناها "خلية " والمرادف العربي لها هو المغارة التي يتوحد فيها الراهب أو الناسك " ولقد عمر هذا الجزء الموحش من الصحراء نحو 600 راهب علمهم مكاريوس السكندري كيفية بناء القلالي وحفرها . ولقد أستمرت هذه المنطقة عامرة بالرهبان لعدة قرون ؛فلقد جاء ذكرها في مخطوطة تكريس هيكل الانبا بنيامين البطريرك ال 38 من بطاركة الكنيسة القبطية الآرثوذكسية ؛فعندما ذهب لتكريس هياكل الكنيسة بدير أبو مقار عام 645 – 646 م ؛مكث الآب البطريرك عند قدومه من الإسكندرية لمدة يومين في منطقة القلالي ؛ثم أوصله بعض الرهبان إلي دير الأنبا مقار .
كذلك يشير تاريخ البطاركة أيضا أن هذه المنطقة كانت عامرة بالرهبان في القرن الثامن الميلادي ؛ وتذكر بعض المصادر الإسلامية أنها ظلت عامرة حتي القرن الحادي عشر . ولقد عرفت هذه المنطقة بأسم "نيري" في المصادر اليونانية واللاتينية ومعناها "القلالي " كما وردت بأسم ""البرنوجي" في المصادر القبطية ؛ أما الاسم العربي لهذه المنطقة فهو "المني " من الكلمة اليونانية "موني " ومعناها "قلاية أو مغارة للتعبد والصلاة "
ويحدد العلماء منطقة كيليا حاليا في المنطقة الواقعة بين بلدتي ابو المطامير وحوش عيسي شمالا وبلدة الدلنجات جنوبا وهي المنطقة الواقعة بين دمنهور ووادي النطرون (حوالي 15 كم جنوب مدينة دمنهور )
ولقد ظلت هذه المنطقة طي النسيان حتي جاءت زيارة ايفلين هوايت للمنطقة نحو عام 1930 فبدأ إلقاء الضوء قليلا علي هذه المنطقة . ثم جاءت أبحاث العالم دي كوسون الذي عاين المنطقة عام 1936 ثم قام بعمل حفائر فيها ونشر نتيجة أبحاثه عن هذه المنطقة في كتاب بعنوان " the Desert City of EL-Muna ومعناها "مدينة الصحراء في المني "
ثم جاءت حفائر عالم القبطيات الفرنسي "انطوان جيوموه " عام 1964 الذي وجه نداءا عالميا لجميع المتخصصين مظهرا قلقه من الخطر الذي يهدد المنطقة من جراء إستصلاح الأراضي بغرب النوبارية . وفي العام التالي مباشرة (أي عام 1965 ) بدأ فريقين من الآثريين العمل في هذه المنطقة ؛الفريق الأول هو المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة ؛ أما الفريق الثاني فهو البعثة الآثرية التابعة لجامعة جنيف بسويسرا ؛ وتم حصر حوالي 1500 قلاية من بينهم نحو 1000 قلاية سليمة تغطي مساحة قدرها 16 كم2 في تجمعات مكثفة وتجمعات أخري علي مساحات مفتوحة تقدر ب 100 كم 2 . وعندما فحص العلماء هذه القلالي وجدوها مبينية من الرمال المخلوطة بالطين مع نسبة لا بأس بها من الأملاح الموجودة في البيئات شبه القاحلة ؛ ثم تخلط بيعض الماء وتضرب في بعض الأحيان علي هيئة قوالب طوب صغيرة . ولقد انقسمت القلالي من حيث مساحتها إلي ثلاثة أنواع : النوع الأول وهو الصغير ولا يتسع إلا لراهب واحد ؛ والنوع الثاني وهو المتوسط ويتسع حتي خمسة رهبان ؛أما النوع الثالث والأخير وهو الأضخم فيتميز بوجود قلاية لشيخ كبير في الجزء الشمالي الغربي ؛ وبقية قلالي التلاميذ الصغار في الجزء الجنوبي . والأسلوب المميز لعمارة القلالي في منطقة كيليا هو القباب المنخفضة والتي أطلق عليها العلماء المتخصصون ظهر السلحفاء . أما عن الاضاءة فلقد أكتشف العلماء بعض الفتحات في سقف القلاية وكانت تغطي بالزجاج الشفاف الذي يعكس الضوء ؛كذلك ايضا أكتشف العلماء فتحات أخري خاصة للتهوية وتلطيف درجة حرارة الجو .
أيضا أكتشف العلماء في هذه القلالي بعض النصوص الجدارية ؛ تحوي نصوص وصلوات لبعض الرهبان الذين سكنوا في هذه القلالي ؛ منها نص جنائزي مكتوب باللغة القبطية ترجمته ما يلي " هنا يرقد أخونا المطوب مينا بن خائيل ؛وهو من تيماريا ؛ وهو الرجل الذي أـتم حياته بحسب وصايا الرب ؛وحافظ علي تعاليم آبائنا القديسين ؛تنيح (توفي ) في الخامس من مسري في الساعة الثانية عشر في العام 445 لدقلديانوس (حوالي عام 729 م تقريبا بجمع 445 + 284 ) ؛ أذكروه في صلواتكم حتي يمنحه الرب راحة آمين آمين مع جميع القديسن آمين " . أما عن الرسومات الجدارية التي وجدوها فأبرزها هو علامة الصليب ؛وحوله مجموعة من الزخارف النباتية وأوراق الشجر التي تلتف حول علامة الصلبيب ؛ويغلب اللون الأحمر الداكن علي معظم هذه الرسومات وهو أشارة رمزية واضحة إلي لون الدم رمز الفداء في المسيحية . والشيء الجميل الذي أكتشفه العلماء أيضا هو وجود أشكال هندسية علي شكل دوائر متداخلة ؛ولقد أكتشف العلماء أنها تتشابه إلي حد كبير مع الرسوم الهندسية في مقابر بني حسن بالمنيا من الأسرة الثانية عشر الأمر الذي يؤكد وحدة وتواصل التراث الحضاري المصري بجميع أحقابه . ولقد حذر العلماء من زحف العمران علي المنطقة الآثرية ؛فلقد اخترقت ترعة النوبارية وخط السكة الحديد للبضائع من الخطاطبة حتي إيتاي البرود وإنتشرت الزراعات المدنية التي أتت علي المنطقة بالكامل .
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :