الكاتب
جديد الموقع
مَنْ الذي تسبب في كوارث العراق؟
صورة تعبيرية
بقلم : د. عبد الخالق حسين
يتداول هذه الأيام عن طريق البريد الإلكتروني "تقرير" بعنوان (إحصائية مرعبة)عن الكوارث التي حلت بالشعب العراقي منذ عام 2003، يتضمن أرقاماً منها قد تكون قريبة للواقع مثل عدد الأرامل(1 مليون)، والأيتام (4 مليون)، وأخرى مبالغ فيها مثل: الشهداء(2.5 مليون)، والمفقودين (800 ألف)، والسجناء (340 ألف)، والمهجَّرين (4.5 مليون)، لاحظ التركيز على كلمة مهجَّرين وليس مهاجرين، أي أن الحكومة قامت بتهجيرهم قسراً...إلى آخر القائمة. كاتب التقرير لم يذكر اسمه، ويدعي أن كل هذه الكوارث حصلت بعد سقوط حكم البعث عام 2003، وأنها نتاج الاحتلال الأمريكي و"حكومة الاحتلال". كما ويدعي أنه استل هذه الأرقام من الوزارات المختصة في الحكومة ولغاية عام 2008. ولا أعرف كيف استطاع هذا "الخبير" أن يتسلل إلى أعماق الوزارات ويتصفح سجلاتها بهذه السهولة، علماً بأن الأرقام التي نشرتها الوزارات ذاتها والجهات الأجنبية مثل ويكيليكس ومنظمة (Iraq Body count)*، لم تبلغ في بعضها عشر هذه الأرقام.
لا ندعي أن العراق بخير منذ سقوط حكم البعث وإلى الآن.. وإلى أجل غير معروف، كلا، فرغم أن العراق تخلص بفضل التحالف الدولي بقيادة أمريكا، من أبشع نظام همجي في التاريخ، إلا إنه ابتلى بالإرهاب، والذي هو أساساً تمارسه أعداء الديمقراطية من فلول البعث وحليفه تنظيم القاعدة. وقد هيأ نظام البعث لهذا الوضع منذ تسلطه على الحكم عام 1968. ولكن من أسلوب التقرير التحريضي وتضخيم الأرقام، يفهم منه أن الغرض هو تشويه سمعة النظام الجديد والتأليب عليه، والغرض من تضخيم هذه الأرقام هو حث المتطرفين لرفد منظمات الإرهاب، وإظهار حكم البعث البائد وكأنه كان أفضل نظام عرفه الشعب العراقي في التاريخ، وتبرئته من كل الكوارث التي ورثها العهد الجديد، فكأنه لم تكن هناك حروب، ولا أنفال، ولا حلبجة، ولا حرق خمسة آلاف قرية كردستانية، ولا قصف السكان بالغازات السامة في مناطق الأهوار، ولا 4 ملاين مهاجر، ومليون مهجَّر لأسباب طائفية وعنصرية، وأكثر من 400 مقبرة جماعية اكتشفت لحد الآن. ففي رأي كاتب "الاحصائية المرعبة" أن كل هذه الكوارث وغيرها حلت بالعراق بعد عام 2003!!!... تقول الحكمة: "إذا كنت لا تستحي فقل ما تشاء". وبطبيعة الحال، البعثيون لا يستحون.
لقد عودنا البعثيون على أمور كثيرة لم يعرفها العالم ولا الشعب العراقي من قبل، منها مثلاً، أنهم يقتلون القتيل ويسيرون في جنازته، ويرتكبون أبشع الجرائم بحق الشعب ويلقون اللوم على خصومهم وحتى على الضحايا، ويرتكبون الإرهاب ليقولوا أن الحكومة ضعيفة لا تستطيع حماية الشعب. ويشوهون سمعة الديمقراطية ويضربون مؤسساتها ليقولوا أن الديمقراطية لا تصلح للشعب العراقي، ويدمرون المؤسسات الخدمية ليثبتوا أن الحكومة عاجزة عن تقديم الخدمات للشعب، ويحاولون بث اليأس في صفوف الشعب وإحباط معنوياته ليقولوا لا خلاص لكم من الإرهاب إلا بإلغاء الديمقراطية وعودة حكم البعث والمكونة الواحدة.
لا أريد هنا مناقشة كل ما جاء في "التقرير" لأن لا طائل من ذلك ومضيعة للوقت، بل أكتفي بمناقشة ثلاثة من هذه الإدعاءات، كمثال على الكذب والمبالغة:
أولا، يختتم الكاتب بيانه فيقول: "سيطر التخلف على المجتمع العراقي، فبعد أن كان العراق قد محى الأمية في العام 1977 وكان الدولة الأولى بالعالم التي تمحو الأمية بالكامل حسب منظمة اليونسكو".
يسند الكاتب هذا القول إلى منظمة اليونسكو. وربما أثنت المنظمة على العراق في السبعينات على حملته لمحو الأمية، ولكن لا يعقل أن العراق أول دولة في العالم تخلص من الأمية وسبق الدول الأوربية وشمالي أمريكا واليابان في هذا المجال.
ولكن مع ذلك دعونا نناقش هذه "المعلومة"... يقول أن العراق تخلص من الأمية عام 1977، وعادت إليه بعد عام 2003. ونحن الآن في نهاية عام 2013، أي بعد عشر سنوات على إسقاط البعث. فإذا كان الشعب كله يقرأ ويكتب لحد عام 2003، فهذا يعني أن عودة الأمية حصلت من خلال الأطفال الذين ولدوا بعد هذا العام، وإذا طرحنا الذين هم دون سن السادسة، أي دون سن الدراسة، ولا يمكن احتسابهم على الأمية، فيبقى الذين ولدوا بعد 2003 لحد 2006 وهم الآن في المدارس الإبتدائية، فكيف عادت الأمية والجهل للعراق بمجرد دخول الأمريكان إلى العراق؟ وهذا يعني أن نسبة من البالغين العراقيين وبقدرة قادر نسوا القراءة والكتابة وغاصوا في الجهل فجأة بعد عام 2003. نسي كاتبنا أن الأمية والجهالة لا يمكن إنتاجهما في شعب مثقف في سنة أو حتى في عشر سنوات، بل هي مسألة تراكمية ونتاج 35 سنة من التجهيل المتعمد خلال حكم البعث. أما حملة محو الأمية التي يتباهى بها الكاتب فكان القصد منها غسل أدمغة الأميين من ابناء شعبنا وحشوها بهذيانات ومبادئ حزب البعث. ولذلك كان الناس يسمونها بحملة (نحو الأمية).
ثانياً، يدعي الكاتب أن 40% من الشعب العراقي دون خط الفقر. بينما في الواقع أن رواتب جميع العاملين في الدولة تضاعفت مئات المرات عما كان عليه في عهد البعث. فراتب الأستاذ الجامعي، على سبيل المثال، لم يتجاوز 3 دولارات شهرياً في عهد حكم البعث، مما اضطر كثير منهم العمل كسواق تكسي وأشغال أخرى خارج الدوام الرسمي، أما الآن فقد بلغ راتبه نحو ألف دولار أو أكثر. كذلك نعرف من علامة بسيطة وهي انتشار تلفون النقال في العراق الذي كان ممنوعاً في عهد البعث، إذ تفيد إحصائية أمريكية لغاية منتصف عام 2011 أن عدد التلفونات النقالة التي كانت ممنوعة في العراق في عهد حكم البعث، بلغ نحو 26 مليون جهاز في شعب تعداده نحو 34 مليون، وهذا يعني أنه فقط الأطفال الصغار لا يملكون هذا الجهاز. ولا يمكن لإنسان يعيش دون خط الفقر أن يمتلك تلفون نقال على حساب قوت عياله.
ثالثاً، يقول في مكان آخر أن "هناك ثلاث حالات طلاق من كل أربع حالات زواج بعد الاحتلال". وهذا يعني أن 75% من حالات الزواج انتهت بالطلاق. بينما الواقع يؤكد على هبوط نسبة الزواج وتصاعد العنوسة بسبب الحروب والفقر في عهد البعث، وحصل العكس بعد 2003. تفيد الحكمة: "حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له".
ومن هذه الأمثلة نعرف أن الكاتب فضح نفسه، ولذلك إذا كانت هذه غير قابلة للتصديق، فبقية الأرقام هي الأخرى من هذه الشاكلة، أي كلها افتراءات. البعثيون يتاجرون بمشاكل الناس ويستغفلونهم ويستهينون بذكائهم في تمرير أكاذيبهم، ومع الأسف تمر على البعض.
وحتى تعددية المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية والوسائل الإعلامية التي هي في صالح الشعب وعلامة نجاح الديمقراطية، إلا أن الكاتب يجعلها مسائل سلبية، فيقول: هناك [550 كيان سياسي، و11,400 منظمة مجتمع مدني (رقم مبالغ به، يقال أن هناك 4000 منظمة)، و67 محطة راديو، و45 قناة تلفزيونية، و220 صحيفة وجريدة,,,الخ). و لكي يفرغ تعددية هذه المؤسسات من دلالاتها الإيجابية، يدعي أنها ممولة من أجهزة المخابرات الأجنبية. وهذه العقلية هي نتاج ثقافة الديكتاتورية.
بطبيعة الحال نحن ضد هذا العدد الهائل من الكيانات السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، لأن فيها تشرذم وتبديد للجهود والطاقات... ولكن هذه الظاهرة هي رد فعل على سياسة دكتاتورية الحزب الواحد واحتكار الحزب الحاكم للصحافة ومؤسسات المجتمع المدني لعشرات السنين. فقد حصلت هذه الظاهرة في معظم دول أوربا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الدكتاتورية الشيوعية التي كانوا يسمونها مجازاً بـ"الديمقراطيات الشعبية". ولكن هذه التعددية المفرطة حالة مؤقتة ستزول مع الزمن بعد استتباب الوضع وفهم الشعب لقواعد الديمقراطية. ولا نستبعد بعضها أن تكون ممولة من جهات أجنبية، ولكن ليس من الانصاف اتهامها جميعاً بالعمالة وحرق الأخضر بسعر اليابس.
نعم، هناك أرقام حقيقية رهيبة من الأرامل واليتامى والشهداء والمهاجرين، وليس مهجَّرين من قبل الحكومة الحالية، فالمهجَّرون داخل العراق وخارجه فروا بسبب الإرهاب البعثي- القاعدي، وتم التطهير الطائفي في بعض المناطق من الشيعة في بغداد من قبل الإرهابيين، وليس من قبل القوات الأمنية التي تجهد ليل نهار لتحقيق أمن المواطنين. ولكن تضخيم هذه الأرقام عشرات المرات حتى فاقت أرقام فضائية الجزيرة القطرية (1.5 مليون شهيد مثلاً)، هنا مسألة تثير الشكوك في صحة الأرقام التي قدمها الخبير الاحصائي العليم الفهيم! ولغاية في نفس يعقوب.
لقد أجرينا أكثر من مرة مقارنة سريعة بين العراق قبل اغتصاب البعث الصدامي للحكم والعراق في أواخر عهد البعث، ونرى من المناسب إعادة هذه المقارنة ليكون القراء على بينة مما قدمه حكم البعث للعراق من "منجزات".
أولاً، قبل اغتصاب البعث للحكم كان الدينار العراقي يعادل 3.5 دولار أمريكي، وصار الدولار في نهاية حكمه يعادل 3500 دينار، أي انهيار كامل للاقتصاد العراقي.
ثانياً، قبل حكم صدام بلغ رصيد العراق من العملات الأجنبية والذهب حوالي 45 مليار دولار، فبدد هذا الرصيد ومئات المليارات من واردات النفط على الحروب واستدان عليها، بحيث عند سقوطه بلغت الديون نحو 120 مليار دولار، إضافة إلى 400 مليار دولار تعويضات الحروب. يعني دولة مفلسة وغارقة بالديون.
ثالثاً، بلغ عدد قتلى العراقيين بسبب الحروب العبثية، الداخلية والخارجية، خلال حكم البعث نحو مليونين، وملايين من المعوقين واليتامى والأرامل، إضافة إلى الهجرة القسرية والاضطرارية نحو 5 ملايين، بحيث صار العراقيون يغامرون بحياتهم في الغرق عبر البحار على البقاء في عراق يحكمه البعث، والألوف منهم صاروا طعاماً للأسماك.
رابعاً، أما في مجال الجهل والردة الحضارية فقد أعاد البعث المجتمع العراقي إلى عهد القبلية والطائفية، وتفتيت النسيج الاجتماعي، والتجهيل المتعمد، والانهيار الفكري والأخلاقي، وتدمير روح المواطنة والوحدة الوطنية، والولاء للعراق...الخ، يدفع الشعب ثمنه الآن.
خامساً، كل ما ألحق بالعراق من خراب ودمار وأضرار وجرائم، منذ 8 شباط 1963 وإلى الآن، يتحمل مسؤوليته البعث الفاشي.
سادساً، لم يكتف حكم البعث بقتل البشر، بل نشر دماره على الشجر أيضاً. فالعراق الذي كان يسمى ببلاد السواد لكثرة نخيله حيث كان فيه نحو 40 مليون نخلة قبل مجيء البعث لم تبقى فيه غير 8 ملايين نخلة عند سقوط البعث. أرجو فتح الرابط أدناه لمشاهدة ما حل بمزارع النخيل من قبل أعداء الحياة، أعداء البشر والشجر. أرجو مشاهدة الصور إلى النهاية. إنها مقابر النخيل الجماعية
http://www.iraker.dk/aljezany/nakhel/nakhel.htm
فلو بقي حكم البعث لعشر سنوات أخرى لهلك هذا الشعب وفرغ العراق من سكانه عن طريق الإبادة، والجوع والحصار والهجرة. وبذلك لكانت خسائر عدم إسقاطه تفوق خسائر إسقاطه. كما وتؤكد الحقائق أن أكثر من 95% من الضحايا العراقيين بعد 2003 تم قتلهم على أيدي الإرهابيين البعثيين وحلفائهم من أتباع القاعدة الوافدين من السعودية وغيرها من البلدان العربية.
فبالله عليكم، إن حزباً هذا تاريخه البشع، ألحق بالشعب العراقي وشعوب المنطقة كل هذا الخراب والدمار الشامل، هل يستحق العطف والدفاع عنه والمطالبة بعودته أو حتى مشاركته في السلطة؟ غني عن القول إن من يدافع عن هكذا حزب فاشي هو إما مازوخي يستلذ بالتعذيب والعبودية والإهانة، والذلة، أو هو واحد منتفع من المافيا البعثية. وفي جميع الأحوال نحن ضد هؤلاء، ولا بد من العمل لتوفير الظروف الطبيعية لشعبنا ليستعيد عافيته ويبدأ حياة طبيعية كريمة أسوة بالشعوب المتحضرة.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :