ياسر أيوب
حين بدأت الحرب العالمية الأولى 1914.. قرر ديفيد لويد جورج، رئيس الحكومة البريطانية، أن يحيل القاهرة والدلتا لمعسكر مسلح سيتواجد فيه الجنود بأسلحتهم فى كل مدينة وحى وشارع.. وأعلن الجنرال ماكسويل قائد الجيوش البريطانية وضع مصر تحت الحماية بكل ما يعنيه ذلك من منع أى تجمعات وإظلام الأماكن العامة والخاصة وإقفال أبواب ونوافذ البيوت من غروب الشمس حتى شروقها.. لم يدرك الاثنان أنهما بذلك سيغيران تمامًا شكل وواقع ومستقبل كرة القدم فى مصر.. ففى ذلك الوقت كانت الكرة فى مصر لعبة محدودة الانتشار قيمتها الوحيدة الحقيقية هى الفوز على الإنجليز فى الملاعب بعيدا عن سلاحهم فى الشوارع والميادين.. واستسلم المصريون وقتها للخوف والاكتئاب الجماعى وإحساس بأنهم يسددون كل فواتير حرب لا تخصهم.

وبسرعة أدرك الإنجليز أن مصر تحولت لوعاء مغلق داخله بخار مضغوط قد ينفجر فى أى لحظة.. فقرروا استثناء كرة القدم من حظر التجول ومنع التجمعات.. وبسرعة أدرك المصريون أن كرة القدم هى حريتهم المؤقتة ووسيلتهم الوحيدة للهرب من زنازين التهديدات والبيوت دون خوف من أى عقاب.. فزاد عدد من يلعبون الكرة فى الشوارع والحوارى والمدارس.

وزاد أكثر عدد من أقبلوا على مشاهدة المباريات حتى الذين لم يكونوا يهتمون بكرة القدم قبل انطلاق الحرب.. وباتت الكرة المصرية واقعيًا تملك لأول مرة جماهير حقيقية كانت فى البداية تتظاهر بالفرجة ثم بدأ يوما وراء يوم اهتمامها الحقيقى بما تراه فى كل ملعب.. وباتت هذه الجماهير تذهب للملاعب تحمل المزامير والطبول لتشجيع فرقها وتملك هتافات وأناشيد تم إعدادها مسبقا سواء لممارسة فرحة رغم الخوف أو للانتقام الكروى المسموح به من الإنجليز حين تكون الهتافات فى المدرجات تشجيعا للمصريين حين يفوزون على الإنجليز.

فلم يسمح الإنجليز للمصريين فقط بالفرجة على كرة القدم لكنهم سمحوا أيضا لجنودهم باللعب إن أرادوا أو استطاعوا.. ورغم انتهاء الحرب وإلغاء الحماية ثم إعلان استقلال مصر التى لم تعد سجينة القهر والخوف.. ظلت الجماهير فى المدرجات بعدما تعلمت عشق كرة القدم ومارست معها فرحتها وغضبها وجنونها.. ولم يعد ممكنا إعادة هذه الجماهير مرة أخرى إلى بيوت وشواغل وحياة تخلو من كرة القدم.. وسنة بعد أخرى أصبحت هذه الجماهير أجمل ما فى الكرة المصرية.. ويصعب جدًا حصر المباريات التى كانت فيها هذه الجماهير العاشقة هى الصانعة الحقيقية لانتصارات كروية جميلة وغالية سواء للمنتخب أو مختلف الأندية المصرية فى مباريات حاسمة محليا وإفريقيا.. وبقرار عودة الجماهير للملاعب بعد سنين من مدرجات خالية وصامتة وحزينة.. تستعيد الكرة المصرية من جديد أجمل وأغلى ما تملكه.
نقلا عن المصري اليوم