بقلم : مدحت بشاي
نعم للمبدع كل الدنيا، لأن لديه قدرة متفردة على التفكير الإبداعى، فتنشأ له دنيا خاصة هى أكثر اتساعاً ورحابة وروعة، بما لديه من طبيعة فطرية لها مرتكزات أساسية خاصة به، وباستقلالية فى التفكير والرأى، وهو لا يُحبط بسهولة ولا يهرب من أزمات تعترضه بسرعة، وبقوة إرادة، حتى لو كان فى الأمر مغامرة أو ذهاب إلى المجهول.
فى مشهد رائع يقرر أهل الثقافة والفنون رفضهم تأميم وزارة الثقافة بجميع مؤسساتها لصالح جماعة دولية، يفتقد أفرادها حتى المشاعر الطبيعية الإنسانية الفطرية للانتماء للوطن، وبالتالى وعلى رأى الرائع صلاح جاهين «بانوا بانوا على أصلكوا بانوا»، فقد صار لعبهم على المكشوف، بعد أن قرروا ضرب المؤسسات المعنية بالحفاظ على الهوية المصرية، فكان تعيين وزير ثقافة جديد، بات من الواضح أنه مكلف بتوجيهات محددة لتصفية قيادات كل إدارات وهيئات الثقافة، فنفذ الوزير بكل طاعة وامتثال إخوانى منعه حتى من التحقيق وكشف مستندات الخطأ والفساد التى بسببها كانت قراراته بإلغاء انتداب البعض أو الاستغناء عن خدمات البعض الآخر، وكان الهدف الواضح هو إعادة النظر فى المنتج الثقافى للقضاء على بعضه، وصياغة بعضه الآخر من جديد وفق رؤية إخوانية لا تعير أهمية لضياع الهوية المصرية، أو أبعاد الحالة الثقافية وأوجاعها، وعليه احتشد أهل الثقافة والإبداع فى مصر المحروسة أمام وزارة الثقافة وعلى باب وزيرها لإعلان رفض سياساته وقراراته، بل رفضه كوزير يقود العمل الثقافى بعد ثورة كان وقودها المشعل لجذوتها الفكر الإنسانى ومنتجه العصرى عبر تجليات وسائل التواصل الاجتماعى.
عن زمن الستينيات «وما أدراك ما الستينيات» يحكى لنا الناقد العظيم الراحل د.على الراعى قصة تأسيس وزارة الثقافة فى مثل هذا الشهر من 55 سنة، وتنشرها جريدتنا الرائعة القاهرة «التى لا يعلم من أمر أهميتها كإصدار ثقافى شيئاً وزير الثقافة الجديد، ويتحدث عن أرقام توزيعها، ولم يصله خبر تراجع أرقام توزيع الإصدارات الصحفية الكبرى ومرتجعاتها المخجلة، ولم يدرك أهمية الخدمة الثقافية المطلوبة من وزارته دون انتظار عائد اللهم إلا التنوير».
يحكى د. الراعى «خلال خمس سنوات من قيام ثورة يوليو المجيدة كانت قد تأسست منارات ثقافية ضمت البرنامج الثانى فى الإذاعة، وفرقة الرقص الشعبى، وبدأت نهضة مسرحية واعدة قدمت روائع المسرح العالمى، وعادت الحياة لأوركسترا الإذاعة، وأنشئ المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية».. ويشير الراعى للحوار التالى بين فتحى رضوان وزير الثقافة والرئيس الراحل عبدالناصر «يقول رضوان لناصر بغيرة المثقف الذى يأمل أن تصل رسالة وزارته التنويرية لكل الناس: وزارة الثقافة تنشر كتباً لكبار الكتاب، وتعلن عنها فى كل الصحف.. ومع ذلك فتوزيعها قليل.. فيرد عليه الرئيس: العبرة ليست بالكثرة.. ورب فرد يتأثر بكتاب يكون بمثابة ألف شخص».. إنها رسالة يا رب يعيها وزير الإخوان ورئيس الإخوان فى زمن قلب الأحوال!!
أعود لحشود أهل الثقافة والفنون واعتصامهم السلمى الوطنى بوزارة الثقافة فى أسبوعه الثانى، ولأن أصداء الاعتصام تجاوزت حدود حى الزمالك، وباتت مظاهراتهم فضيحة عالمية لنظام قرر التصدى لإبداع أبناء الوطن، إلى حد التأثير على خصوصية هوية المصرى وتشويه تجلياته العبقرية عبر العصور، فقد قرر صبيان الإخوان بقيادة «المغير» القيام بغزوة الزمالك لفض تظاهرات أهل الإبداع، فكان وصول جماعات أعداء الجمال والثقافة والإبداع والتنوير إلى محيط الوزارة، وحدوث المواجهات التقليدية المتكررة التى تحدث فى مثل تلك المواقف، ووقوع ضحايا غباوة قرارات من لم يفهموا أن المصرى قد تجاوز فكرة أن ترهبه حدوتة الحشود المصنوعة، بدفع جموع الغلابة عبر تحريكهم بأوامر للاحتشاد، دون حتى أن يعلموهم بحقيقة الدور المنوط بهم اتباعاً والتزاماً بمبدأ السمع والطاعة ومنع التفكير فهو آفة أهل الإبداع بتوع الثقافة والفنون والعرى والإلحاد!!.. ولكنهم ردوا على أعقابهم خائبين!!!
والوزير المكلف والمرفوض ينتمى سياسياً لحزب التوحيد العربى، الذى يتبنى، وفق ما جاء فى أوراقه، حملة قومية لاستئصال الانهزام الحضارى القائم تجاه الغرب ولغاته، ممثلاً فى تفشى الأسماء الأجنبية وإطلاقها على جميع الأنشطة التجارية والصناعية والخدمية، والدعوة لتغيير ذلك بكل ما هو عربى اللغة ومعبر عن جذورنا وأصالتنا.
كما ينبغى تبنى حملة فورية للتعريف بخطورة ما يقوم به النشء حالياً من استحداث التعبير عن بعض الحروف العربية برموز لاتينية، وانتشار استخدام ذلك فى الرسائل المتبادلة سواء من خلال الهاتف المحمول أو شبكات أجهزة الحاسوب (إنها أهداف حزب فى عام 2013).. وعن المرأة تتحدث أدبيات الحزب «الدور الأساسى للمرأة من الناحية الاجتماعية هو فى تربية الأبناء ورعاية الأسرة. وهو الدور الذى يشكل الوحدة البنائية للمجتمع الذى يتطلع لقيام المشروع الحضارى النهضوى المطلوب». وفى شأن الثقافة يقولون «إن الثقافة مصدرها الدين، وتحفيز الإبداع فى الشعر والقصة والسينما والمسرح من أجل تنمية المجتمع وإشاعة الفضائل، ولا يمكن قبول الهجوم على الأديان سواء بطباعة ما يصدر عن منحرفين من الداخل أو تبنى مطبوعات للمستشرقين المعادين، ويجب أن يكون ما تدعمه الدولة فى مجال الثقافة مقصوراً على الجاد والهادف والمحترم!! (لا تعليق سوى لقارئ المصرى اليوم الحصيف ليدرك أن الوزير ينتمى لحزب قد تجاوزت الدنيا أهدافه وأفكاره)!!
كان ينبغى للوزير قراءة أبعاد النكت التالية: عندما تحاول المعارضة المصرية فتبدع تحالفاً لقواها بإنشاء «جبهة الإنقاذ» فيكون الرد إنشاء «جبهة الضمير» بضم أسماء يعلن أصحابها أن الضمير قد غادر أصحابها عندما كتبوا أننا ننتمى إليها دون علمنا، وعندما يبدع شباب عبقرى حركة «تمرد» يكون الرد النكتة بالإعلان عن حركة «تجرد».. وعندما يعلن الرئيس حظر تجول فى منطقة القناة يعلن شبابها عن بداية تنظيم دورى لكرة القدم فى نكتة مبدعة وليست بخيبة نكت الموالاة، أما حشود الفنانين فقد رقصوا فى صحن فناء وزارة الثقافة على موسيقى «زوربا»، لإعلان أن مصر المبدعة باقية بقواها الناعمة وهويتها غير القابلة للعبث.. ودعوا الوزير لحزبه وللمبدع كل الدنيا.
medhatbe@gmail.com