لا تنتقل أجسامنا من السكون إلي الحركة إلا بعد أن تسري في خلايا المخ فكرة جديدة لعمل شيء:
شراء خبز مثلا, أو المشاركة في ثورة لتغيير النظام الحاكم؟
تقدمت الدراسات عن المخ وكيف ينتج الأفكار ويستعيد الذكريات ويستخلص النتائج, لم تعد الفكرة الجديدة أو مايسمي الإبداع يهبط من السماء عن طريق الوحي الإلهي أو المس الشيطاني, أو ينبع من العقل الباطن واللاوعي, أو أنه الجنون والخروج عن العقل. لقد أصبح الإبداع هو قمة الإدراك والعقل الأعلي حين يتحول اللاوعي إلي وعي, ويتحول الخيال الي حقيقة. وخلايا المخ قادرة علي تخيل أشياء غير موجودة, نابعة من تذكر أحلام الطفولة وربطها بآلام الحاضر وتوقعات المستقبل, وتعتمد عملية الإبداع في المخ علي هذا الربط بين الزمان والمكان, بين الخيالي والحقيقي أو بين الروحي والحسي. والابداع يقوم علي التخيل والتذكر والربط بين الأشياء غير المترابطة والقدرة علي إلغاء الفواصل المصنوعة بين, السماء والأرض, والحياة والموت, والروح والجسد, والإله والشيطان, والأنثي والذكر, والعلم والفن, والطفولة والشباب, والكهولة والشيخوخة وغيرها.
تسري فكرة التمرد في الخيال بسيطة طبيعية يمارسها الأطفال البنات والأولاد, كما يتنفسون الهواء ويرون ضوء الشمس, إلا أن نظام التعليم يتدخل ضد الطبيعة والفطرة فترتبط كلمة التمرد في الخيال بالعقاب والحرق في النار, وليس باللذة الناتجة عن المعرفة, يحفظ الأطفال قصة حواء الآثمة التي عصت الله وقطفت ثمرة المعرفة.
وفي العاشرة من عمري أخفيت مفكرتي السرية خوفا من النار, فقد كتبت فيها رسالة إلي الله أطلب منه أن لايتحيز لأخي لمجرد أنه خلقه ولدا وخلقني بنتا. وكان أخي يحصل علي ضعف نصيبي من قروش العيدية, رغم أنه يسقط في المدرسة, وأنا أحصل علي ضعف نصيبه من الكنس ودعك المراحيض رغم أنني أنجح بتفوق. وذات مرة ضربني مدرس الدين بالمسطرة علي أصابعي معلنا أن من يكتب رسائل الي الله يحرق في نار جهنم. وقد مضت سبعون سنة دون أن أدري. ويتلاشي الزمن حين أحملق فيه كأنما غير موجود, حتي اليوم لم أنشر ما كتبته في مفكرتي الطفولية, ليس خوفا من النار, فقد حررتني أمي وأبي من الخوف واستطعت مواجهة العالم بوجه مغسول دون مساحيق أو حجاب, لكن مفكرة طفلة أو طفل حتي اليوم قد تكون أخطر من انفجار ذري أو نووي, وأثبتت الدراسات أن عقول الأطفال( قبل خضوعهم لقانون الطاعة في البيت أو المدرسة) أكثر ابداعا من عقول آبائهم, وبدأت محاولات جديدة في بعض بلاد العالم لمنح الأطفال حق الانتخاب في سن العاشرة.
في بداية يناير3991 بدأت تدريس علم الابداع والتمرد بجامعة ديوك بمدينة ديرهام في ولاية نورث كارولينا بأمريكا الشمالية, وكنت أندهش حين أسمع الطلبة والطالبات ينادوني بروفيسر الساداوي, يبدو الاسم كأنما لشخص غيري, استجمع ذاركتي وأعيد ترتيبها لأدرك أين أكون, أتذكر أن الحكومة المصرية فرضت الحراسة المسلحة علي بيتي بالجيزة, وبودي جارد لحماية حياتي المهددة بالقتل بسبب قصة قصيرة كتبتها من الخيال, كانت مصر تعيش مايسمونه الارهاب شيء غامض مثل نار الآخرة وتسري الأنباء عن قوائم الموت والاغتيال للمفكرين والأدباء.
لم أعثر علي اسمي: كمفكرة وأديبة) إلا في قائمة الموت, وأصبحت أدرس علما جديدا أطلقت عليه اسم الابداع والتمرد, دعتني الجامعات( خارج مصر) لتدريسه لطلاب الدراسات العليا علي مدي العشرين عاما الماضية قد يغلبني الحنين أحيانا الي مصر فأعود, لكن ما أن أعود حتي أفكر في الرحيل, وأنا أكره مهنة التدريس بطبيعتي, وأقول للطلبة والطالبات في أول لقاء: الابداع والتمرد لايمكن تدريسهما. ولا أملك إلا محاولة تحريركم قليلا مما وضعه المدرسون في عقولكم, يشرئبون بآذانهم للصوت الجديد, يرفعون رءوسهم الي الوجه المحروق بالشمس والرأس بلون قمة الثلج, يزحف الي عيونهم بريق بطيء كشعاع شمس غاربة مترددة. جاؤا إلي الجامعة للحصول علي الشهادة ثم الالتحاق بعبيد العمل في السوق, يحملون تحت ضلوعهم الضجر والوجع, والأمل المفقود في الفصل منذ طفولتهم,
أقول لهم انه نظام التعليم القائم علي الازدواجية والثنائيات والتناقضات, لم تغير أسس التعليم منذ العبودية, الا بما يسمح بزيادة الجشع واغتصاب حقوق الغير, وتراكم أرباح السوق, وتطور أسلحة الغزو والدمار الشامل. ويسأل طالب, هل يختلف نظام التعليم في أمريكا عنه في مصر وترد عليه طالبة, تختلف النظم التعليمية من بلد الي بلد, لكن الأسس واحدة, رغم تقدمنا في مجال علم الكون, مازلنا نؤمن بنظرية الخلق الواردة في الكتاب المقدس.
ترن ضحكات مكتومة, ويقف طالب قائلا: أنا تحررت تماما من هذا الفكر اللاهوتي وكل شيء أخضعه لعقلي وترد عليه الطالبة: لكن عقلك لايزال ذكوريا.. وغزواتك... النسائية؟. ترن ضحكات خافتة في الفصل, يصعد الدم الي وجه الطالب ويجلس صامتا حتي آخر الحصة.
كانت حرية الجدل متاحة, يتكلمون أكثر مني( الطريقة الأفضل للتعليم) أحاول اثارة خيالهم بالأسئلة: هل تنقرض الرأسمالية الأبوية في المستقبل مثل الديناصورات؟ وكيف يكون العالم بدون الأديان؟.
نقلان عن الاهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع