بقلم مهندس عزمي إبراهيم
مخطئ من يَظن بحسن نية، أو يًدَّعي مغرضاً، أني أدافع بمقالي هذا عن شخص أو كاتب بعينه، فمن البديهي أن كل من يخطو بقلمه في ساحة الكلمة لديه الكفاءة والمقدرة أن يدافع عن نفسه إذا كان هناك ما يستوجب الدفاع، وهو ليس في حاجة إلى دفاع أحد عنه. ولكن من يشاء أن يدلو بدلوه تأييداً أو معارضاً له فله ذلك الحق، مادام في إطار من الاحترام المتبادل، والتركيز على الأفكار لا الأشخاص.
ولكني بمقالي أبدي رأيي الشخصي وما أؤمن به دفاعاً عن جميــــع الكتاب والمفكرين في هذا الموقع أو في غيره، ويشهد المتابعين لي بالموقع أني شجعت وأشجع الكثيرين من شباب الكتاب، ولا أقول صغارهم. فأنا أعتقد أنه ليس بين عمالقة الأدب في العالم من وُلِـدَ كاتبأ، ناهيك عن كاتب كبير ناضج مصقول.
تقدير الرأي وتقدير صاحب الرأي أمران، رغم أن كل منهما يضفي على الآخر بعض التأثير إيجابياً أو سلبياً، إلا أن كل منهما مستقل تماماً عن الآخر. فالرأي الصائب يضفي لمعاناً على الكاتب حتى لو كان كاتباً غير مصقول، كما أن الرأي الشطط يضفي عتامة على الكاتب المتألق.
ولكن ليس هذا معناه أن الكاتب المغمور سيسطع نجمه في سماء الكلمة والشهرة بين يوم وليلة بمقال جيد واحد أو رأي صائب واحد رغم العديد من توافه مقالاته وسطحيات آرائه. فما ذاك المقال أو الرأي إلا سهم من غير خبير أصاب بغيرقصد، أو كما يقال "رمية من غير رام". وليس معنى ذلك أيضاً أن الكاتب المتألق سيسقط نجمه من سماء الكلمة والشهرة بمقال به خطأ ٍ أو رأيٍ غير صائب. فما ذاك المقال أو الرأي إلا رمية رام ماهر خابت، أو كما يقال "كبوة فرس" و"لكل فرس كبوة".
من يحكم بعكس ذلك ينسى أن كلاهما "إنسان" وكل حكيم في الحياة قد يخطئ أحياناً وقد يكون خطأه بغير قصد، وكل غير حكيم قد يصيب. أضف إلى أن كل انسان له رأيه، وله حقه في إبداء ذاك الرأي في كتاباته بلا خوف من معارضة أو هجوم لآرائه، لا لشخصه. فكما أنه لكل إنسان حق حرية التعبير، فله أن يعلن أو يكتب رأيه مهما اختلف فيه جميـــــع الناس. فالمفروض والمتوقع أن كل رأي في رأي مُقَدِّمٍهِ "صواب" وله أسبابه ولديه ما يدعِّمه من خلفيات أشار إليها صراحة أو تلميحاً تبعاً لحساسيتها، وإلا ما كان قدَّمَهُ.
وإلى جانب مضمون المقالات من الآراء فهناك النهج والأسلوب حيث أن لكل كاتب نهجه وأسلوبه، كما أن لكل كاتب لونه في الموضوعات التي يكتب فيها: اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو قصصية أو شعرية.. ألخ. هناك ملايين أحبت طه حسين أو عباس العقاد أو احسان عبد القدوس أو نزار قباني مثلا، وهناك ملايين لم تحبهم. وكذلك ملايين أحبت محمد عبدالوهاب أو فريد الأطرش أو أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ مثلا، وملايين لم تحبهم. هدفي من هذا أن الناس أذواق في مشاربهم، والقراء أو "السَمِّيعة" أحرار فيما يستذوقون، وأحرار في تعبيرهم عن شعورهم بالمحبة أو النفور.
وليس منطقياً أن يُتَّهَم الملايين التي توافقت أذواقهم وآراؤهم في حب هذا أو رفض ذاك بتكوين "شلل" أو "شللية". كما لا يصح اتهامهم بـ "النفاق" أو "المراءآة" أو "التملق" في تأييد هذا أو ذاك أو تفضيل هذا أو ذاك. واتهامهم بذلك ضرب من الغباء والحماقة والسطحية، وربما سوء النيِّة.
في الشرق العربي الاسلامي كان قمع الكلمة الحرة المتنورة سلاحاً للحكام والأحكام الدينية التعسفية المتطرفة، وكان الاتهام بالزندقة أي الانحراف عن الدين وسيلة سهلة ضللوا بها الجهلاء والغوغاء وهيجوهم وحرضوهم ضد المفكرين والعلماء والشعراء والفلاسفة حتى قاموا بحرق كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني، وتكفير ابن الفارض والفارابي والرازي وابن سيناء والكندي والغزالي وأبي العلاء المعري وحبسه، ونفي ابن المنمر وقتل الطبري وابن حيان والسهروردي، وقتل الحسين بن منصور الحلاج صلباً، وقتل الجعد بن درهم مذبوحا، وقتل لسان الدين بن الخطيب وحرق جثته، وقتل أحمد بن نصر وتعليق رأسه والدور به في الأزقة، وقتل ابن المقفع بعد تعذيبه بأبشع أنواع التعذيب وقطع أوصاله ثم شويها أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. كل هذا وغيره تم باسم الدين، وليس به من رحمة الدين وعدالته ذرة.
تلجيم الكتاب والمفكرين، وقمع الكلمة الحرة مهما اختلفنا في تذوقها، واستقطاب الرأي في منوال واحد ولتيار واحد، خطأ كبير، بل جريمة حضارية غير إنسانية وعقبة في تطور الحياة وتقدم البشرية. فلنتعلم من الدول الغربية المتحضرة المتقدمة التى تجاوزت فترة التكفير والارهاب الديني، ونفضت عنها عباءة التطرف والتشدد العقائدي إلى الإنسانية والمدنية، وما زالت محتفظة بقدسيات الأديان.
يحضرني قول كاظم فنجان الحمامي "كانت تهمة الزندقة هي السلاح الوحيد الذي حمله أعداء الحقيقة ضد العلماء والمفكرين في كل زمان ومكان، وهم الذين زرعوا بذور الشك والريبة في المجتمعات الناهضة، فنمت أشجار الجهل والتخلف في وديان الظلام."
حساسية الأمر... أن لنا مقدسات في مفهومنا وقلوبنا نودّ أن تظل مقدسة ولا يمسسها أحد من داخل أو خارج صفوفنا، فهي خط أحمر. ولكن النقطة الجوهرية هي أن هذه المقدسات لاهوتياً في يد الله، والله وحده قادر أن يحميها. وبشرياً هي في يد بشر وقد يخطئ البشر وقد يهملوا فيها. النقطة الأخرى، أننا معظم كتاب ومعلقي الموقع مقيمون بخارج مصر. ربما سمعنا من أقاربنا وقرأنا ورأينا في الميديا الفضائيات بعض ما جرى وما يجري بمصر. ولكن بيننا من هم مقيمون بمصر يعيشون حياتهم بمصر ويعانون مما جرى وما يجري بها. فهم بلا شك يعلمون أكثر مما نعلم. وشهادتهم في الكثير من الأمور الحساسة لو أتحنا لهم الشهادة أقوى من شهادتنا.