الخميس ٢٥ ابريل ٢٠١٣ -
٥٣:
٠٨ ص +02:00 EET
بقلم: إسماعيل حسني
لا شيء يمكن أن يدغدغ مشاعر العوام، ويفعل في عقولهم فعل السحر، أكثر من الحديث عن استعادة أمجاد الحضارة الإسلامية التي عاش المسلمون في ظلها سادة أقوياء يرفلون في العز والوفرة والرخاء.
ويستخدم المشايخ وصبيانهم من أدعياء الإسلام السياسي هذه التيمة السحرية في في تحويل عوام وبسطاء المسلمين إلى قطعان من الأتباع والمريدين، وجيوش من البلطجية والإرهابيين، إذ يدعون أن الحضارة الإسلامية قد قامت بسبب تمسك المسلمون الأوائل بتعاليم دينهم وتطبيقهم لأحكام الشريعة، فيسقط الناس في حبائل المشايخ وصبيانهم، ويتبعون فتاويهم وإملاءاتهم، أملا في بعث هذه الحضارة من جديد.
والحق أن أجدادنا المسلمين قد كتبوا صفحة رائعة في كتاب الحضارة الإنسانية، ودانت لدولتهم (دولة الخلافة) معظم أجزاء العالم القديم من الأندلس غربا حتى حدود الصين شرقا، ولكن هذه الحضارة قامت لأسباب لا علاقة لها بما يدعيه مشايخنا الأجلاء، بل أن ما يدعونه كان أهم أسباب انهيارها.
إن الحضارات إنجاز بشري لا يتحقق إلا عندما تتوفر الأسباب المادية والموضوعية لقيامها، وهو ما حدث في منتصف العصر العباسي الأول، حيث اتسعت الدولة، وهدأت حدة الغزوات العسكرية بسحق المقاومة وتأمين الحدود والثغور، وتمتعت البلاد بالإستقرار، وتدفقت عليها الموارد من كل حدب وصوب، واستتب الأمن، وعاش الناس في بحبوحة واطمنئنان، وساد مناخ من حرية الفكر والمعتقد نتيجة للتعددية الثقافية التي فرضتها حاجة الدولة للإعتماد على شعوب غير عربية في حماية أمنها من تهديدات وأطماع فلول الأمويين والعلويين وغيرهم، فوجد العقل فرصة ليعمل ويبدع في مختلف العلوم والفنون والأنشطة، فقامت النهضة، وأصبحت بغداد وغيرها من المدن العربية من عجائب الدنيا في ذلك الزمان.
هذه الشروط لم تتوفر للدولة الإسلامية في طبعتيها الراشدة والأموية طيلة 140 عاما رغم قيامها في خير القرون وفي وجود آلاف الصحابة والتابعين فلم تقم الحضارة. وعندما توفرت هذه الشروط في أوروبا وأمريكا واليابان والصين قامت الحضارة. وإذا لم تتوفر هذه الشروط لدينا اليوم فلن نستطيع بناء حضارة مهما تحلقنا حول المشايخ، ومهما بلغت درجة تمسكنا بتعاليم ديننا، ومهما حجبنا نساءنا وأطلنا لحانا.
المثير هنا أن الذين لعبوا أهم الأدوار في بناء الحضارة الإسلامية لم يكونوا مؤمنين صالحين بمقاييس الإسلام الوهابي الذي يفسد ديننا هذه الأيام، بل كانوا كفرة وفسقة وزنادقة، فالحكام الذين قادوا هذه المرحلة الأمين والمأمون والمعتصم وغيرهم كانوا معتزلة يقدمون العقل عن النقل ويقولون بخلق القرآن، وحركة الترجمة التي شكلت اللبنة الأولى في هذه الحضارة قام بها المسيحيون الذين كانوا يجيدون اللغات اليونانية والسريانية، أما أعلام هذه الحضارة في جميع المجالات كالفاربي وابن سينا والرازي والجاحظ وابن رشد وأبو النواس وابن الرومي والمعري وغيرهم فقد أجمع على كفرهم الغزالي وابن الصلاح وابن تيمية وابن القيم وكل من سار على دربهم من فقهاء السلاطين والحنابلة والمتطرفين حتى يومنا هذا.
أما الأكثر إثارة أن الحضارة الإسلامية قد ازدهرت لنحو مائتي عام ثم بدأت في الإضمحلال منذ منتصف العصر العباسي الثاني على يد مشايخ الحنابلة، االذين اضطر الخليفة المتوكل للإستعانة بهم حين ضعفت الدولة نظرا لقدرتهم على حشد العوام لمواجهة هيمنة أمراء الجند الأتراك على مقدرات الدولة، فبدأ الحنابلة في القضاء على مقومات الحضارة كما يفعل أحفادهم الإخوان والسلفيون في بلادنا هذه الأيام، فكانوا ينتشرون في الأسواق، ويعتدون على الناس في الطرقات، ويفرضون قيودا على ملابس الناس وطرق معيشتهم، ويقيمون الحدود على المتهمين في الساحات، ويعتدون على المتكلمين والأدباء والشعراء، ويحرقون الكتب، ويحرمون الفنون والموسيقى والغناء وتدريس الفلسفة والمنطق والحساب والطبيعيات، ويحاصرون منازل الأئمة والعلماء والقضاة من المذاهب المخالفة ويطاردونهم، ويفضون حلقات الدرس والإجتماعات بالقوة، فساد الإرهاب، وذبحت الحرية، فتوقف العقل عن الإبداع، وغربت شمس الحضارة عن بلادنا.
إن الأديان لا تصنع حضارات، ولقد عرف الإنسان الحضارة قبل أن يعرف الأديان بآلاف السنين، فالحضارة وفق أبسط تعريفاتها هي تحسين ظروف حياة الإنسان على الأرض عن طريق الإبداع في الفنون والعلوم والآداب، ومن ثم فهي ليست إنجازا غيبيا يتم بقوة كن فيكون، بل هي انجاز مادي بشري يتم متى توفرت شروطه، ويختفي باختفائها، والله العادل يوفق في الدنيا من أخذ بالأسباب الصحيحة مؤمنا كان أو كافرا.
لقد كان التطرف والغلو الديني دائما العدو الأول للحضارة الإنسانية كما رأينا في سائر الحضارات، ومن العبث الحديث عن بعث حضارات بادت وأصبحت في ذمة التاريخ، وإنما علينا أن نعمل لنقيم حضارة تتسق مع قيم ومتطلبات العصر الذي نعيش فيه.